أستجيب عبر هذه السلسلة لطلب كثيرين يظنون أحسن الله ظنهم أن تجربتي في مواقع مختلفة من الدولة جديرة بأن تُكتب في شكل مذكرات، غير أنني أفضّل، في هذه المرحلة، أن أظل مشاركاً في النقاش الوطني من خلال مقالات تتناول محطات سياسية كنت شاهداً أو فاعلاً فيها.
وتجدر الإشارة إلى ان أهمية هذه المحطات لا تكمن فقط في ذكرياتها، بل في ما تتيحه من دروس وعِبَر تظل صالحة للوضع الراهن، حيث ما تزال بعض الإشكاليات مطروحة بإلحاح، وتحتاج إلى مقاربات عملية تفضي إلى حلول في مصلحة موريتانيا.
ثم إنه يتعين القول بأن هدفي من هذه الكتابات ليس تلميع الذات أو البحث عن مكاسب شخصية، بل الإسهام، بما عشته ورأيته، في تعزيز ثقافة الجمهورية والدفع بالنقاش نحو ما يخدم الصالح العام، والله من وراء القصد.
وعلى بركة الله ابدأ السلسة بما خطر ببالي على خلفية متابعة النقاش الدائر حول ما يسميه البعض الخطاب الشرائحي و ما يرى فيه آخرون إثارة لهوية مكونة الحراطين الاجتماعية.
فقد عادت بي الذكريات إلى ما حدث غداة تعيين الأستاذ اسغير ولد امبارك وزيراً أول، وذلك خلال اجتماع المجلس الوطني للحزب الجمهوري، فكما جرت العادة، تنافس الخطباء في الإشادة بالمكاسب مع الإشارة إلى المطالب غير أن المداخلة الوحيدة التي لامست قلبي وأثارت انتباهي كانت للمرحوم محمد ولد حيمر، معلم الأجيال وأحد أعيان مدينة شنقيط العريقة وعضو جماعة مسجد الحي الذي يسكنه في نواكشوط.
ففي لحظة صادقة ومؤثرة، أجهش بالبكاء وهو يثني على اختيار الرئيس معاوية لرفيق دربه في هذا المنصب الرفيع ولم يكن بكاؤه ضعفاً، بل كان درساً في أن الرمزية السياسية ليست تفصيلاً ثانوياً وإنما هي أحياناً أبلغ من كل الخطب نتيجة لتأثيرها العاطفي وإلى ذالك أشارت
السيدة أم العيد فال –رحمها الله–التي لم تفوّت الفرصة عند الخروج من القاعة لتداعبه بابتسامة قائلة: «انت عايد فيك بكّيه، لا هي تعودنا كيفت مسعود؟»، بمعنى أن الزعيم مسعود ولد بلخير معروف بتأثره العاطفي في بعض خطاباته.
في اليوم الموالي، وأثناء استقبالي من طرف الرئيس معاوية ضمن لقاءاته الفردية بالوزراء الجدد، بادرني بقوله: «أوضحنا مهمتك لوزير الخارجية»، اكتفى بتلك الاشارة التي تعني أن الوزير قد يخبرني ببعض التفاصيل وأن صلاحياتي كنائب وزير يحددها المرسوم بوضوح..
في المقابل فتح أمامي بأريحية باب النقاش السياسي.. و بعد أن شكرته على الثقة متمنيا أن أكون أهلا لها بدأت حديثي الذي طال عدة مواضيع ربما أتكلم عنها جزئيا أو كليا في حلقات لاحقة إن شاء الله بتذكيره بالمداخلة المؤثرة للاخ محمد ولد حيمر فقاطعني بجملة بليغة مفادها أن «الأوان قد حان ليدرك الموريتانيون أنهم سواسية، وأن أي مواطن يمكن أن يترأسهم».
كان ذلك مناسبة تطرقنا فيها إلى بعض الأفكار المتعلقة بالمساواة بين المواطنين التي يجب أن تظل حجر الزاوية في بناء الجمهورية ولذلك يجب العمل على تجاوز العصبيات والولاءات الضيقة كشرط لا غنى عنه لترسيخ مفهوم الدولة.
وقد انتهزت الفرصة لأذكّره برأيي المناهض لحل حزب العمل بقيادة الزعيم مسعود ولد بلخير، مؤكداً أن ذلك القرار كان خطأً سياسياً جسيماً لانه ساهم في تعزيز نفوذ أنصاره الذين فازوا بعدة مقاعد في العاصمة، ليؤكد الواقع أن الإقصاء لا يضعف الخصوم، بل يمنحهم قوة إضافية، وكان هذا درساً بالغ الوضوح: أن الديمقراطية لا تُبنى بالمنع وإنما بالاعتراف بالتعددية وفتح المجال أمام الجميع.
على هذه النقطة بالضبط، علّق السيد الرئيس على مسألة المال في الحملات الانتخابية قائلاً: «أوافقك الرأي، فالإمكانيات المادية – النقود والسيارات – كانت أهم سبب لفشل الحزب في بعض المقاطعات، لأن الذين فازوا عليه فقراء لا يملكون إمكانيات أو كما قال بالحسانية ” غلبوهم ماشيين على كرعيهم بلا وتات “.
لقد كان ذلك درساً مهما يفي بأن الوعي الشعبي حين يبلغ مستوى معيناً يصبح أقوى من المال والسيارات، وأن صناديق الاقتراع تستطيع أن تقول كلمتها بوضوح مهما حاولت الإمكانيات المادية التأثير.
كان الرئيس يدرك تماما أن اهتمامي بخطاب المرحوم محمد ولد حيمر وبقضية حل حزب العمل مرتبط بدور قمت به منذ سنوات مع جيل من الشباب والأطر المحسوبين على الموالاة في مجال حقوق الإنسان، فمن خلال مشاركتنا في ملتقيات ومؤتمرات دولية – مثل مؤتمر دوربان المناهض للميز العنصري و للممارسات الاسترقاقية حصلت لدينا أراء مختلفة ومقترحات تصب في سبيل التهدئة والحوار كما حصلت بينا احتكاكات واتصالات مكثفة مع الخصوم السياسيين مكنتنا من التعرف عن قرب على العديد من رموز المعارضة الرادكلية والناشطين في مجال حقوق الإنسان وغيرهم من الشخصيات الوطنية من أمثال الزعيم مسعود ولد بلخير، وهو أول حامل للواء حراك الحراطين يتم تعيينه وزيراً في تاريخ الجمهورية بقرار من الرئيس معاوية…..
عبد القادر ولد محمد.