ما الهوية الثقافية؟
مكونة لحراطين.. و خطاب الكراهية.
(- 4-)
خطاب الكراهية مَرْكَبُُ سهل ، في متناول الجميع مهما كان مستواهم الاجتماعي و المعرفي؛ لأنه ليس أكثر من سب فرد أو أفراد أو مجموعة، و التحريض عليها و التقليل من قيمتها الإنسانية و الدعوة للنيل من أعراضها. و قد ينجح خطاب الكراهية في تحريك الغرائز العدوانية في أوساط شباب الحراطين، الذين يئنون، شأن شباب البلاد عامة، تحت وطأة البطالة و مرارات روايات مظالم التاريخ في مجتمع القبائل و الاستعراض الغبي و التافه للقبائل في " دولة المؤسسات الحديثة" ؛ و قد يخلق هذا الخطاب حواجز نفسية و يحفر هوة سحيقة بين المكونتين العربيتين، لحراطين و البيظان، خاصة إذا تواصل تراكم هذا الخطاب بترديد عبارات " السكان الأصليين و غير الأصليين" و " السود و البيض" و " القتل المزعوم على اللون" ،دون ردع حاسم بالقانون، الساري على الجميع. لكن لن يكون خطاب الكراهية، مهما اتفقنا على مظالم التاريخ، و كيفما تعاظم، أساسا لرد الحقوق و استرداد الاعتبار؛ لأنه معول هدم و تقويض لأسس الوئام الاجتماعي من جهة، و لأنه ينسف بنيان الدولة كإطار قانوني لتسوية المظالم و تدارك أوجه الغبن الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي؛ فبدون مؤسسة الدولة لن يكون إلا الفوضى و قانون الغاب، الذي سيسحق الضعفاء من كل المكونات!
كما أن من نتائج خطاب الكراهية المؤكدة تنامي النفسية الانعزالية لدى لحراطين و الرغبة الهستيرية في تدمير المشتركات الاجتماعية مع إخوتهم البيظان ، و تحويل المظالم التاريخية للحراطين، التي يتفق عليها المجتمع بكل قواه و مشاربه، إلى محميات دعائية مغلقة، كالمحميات الرعوية، حكرا على نشطاء الكراهية و التكسب بريعها في معركتهم الابتزازية مع أنظمة الفساد، التي كانت، أول مرة، وراء خلق و تأجيج أدوات هذا الخطاب ؛ الأمر الذي سيقضي على الطابع الشمولي للنضال الوطني ضد مخلفات الغبن و العبودية؛ بل سيتسبب في ردات فعل على مستوى مكونة البيظان ؛ و هذا ما بدأنا نشهد بعضه و اتساع نطاقه بكل أسف ، بعد ما كان هذا الخطاب محصورا في بعض أتباع حركة إيرا و قادتها. و هذا ليس في صالح أحد، اللهم عناصر حركة "افلام" التي تشتغل، في مشروعها السيتراتيجي ،دون تعب، منذ 1989، على شرذمة المكونة العربية و بعثرة عناصر لحمتها، مسنودة في هذا بمصيبة حكامنا ، الذين تنقصهم الحصافة مع فسادهم. إن إمعان الشرائحيين، من مكونة لحراطين، في خطاب الكراهية و تلفيق ما يعزز تعميقه، سيقود، ليس فقط إلى أمور مميتة للدولة الموريتانية- عندما يحتكرون فضاء التواصل الاجتماعي للتحريض الفئوي و ينجحون في تفجير التحريض الفئوي المضاد لهم من الشريحة الأخرى، و هذا ما يريدونه - بل سيؤدي إلى تحييد الخطاب العقلاني و التقدمي و الوحدوي التلاحمي لقوى الحركة الوطنية التاريخية، قومية و يسارية، التي ناضلت و كانت سباقة، بعقد من الزمن، إلى خلق البذور الأولى للوعي الانعتاقي داخل مكونة لحراطين ، قبل تأسيس حركة الحر في الخامس مارس 1978؛ بل إن تأسيس هذه الحركة نفسها كان نتيجة مباشرة لتراكم الوعي التحرري و الثوري ضد قوى الاستعباد و الرجعية، بفضل ما قامت به تلك الحركات الوطنية عامة، و كان نضالها نضالا وطنيا شاملا، صادقا و نابعا من قناعات وطنية اجتماعية و حقوقية و إنسانية إزاء مكونة وطنية، قليلة ديموغرافيا يومها، و في حقبة دكتاتورية لا حاجة للحركات التقدمية لأصواتها في انتخابات بلدية او نيابية أو رئاسية، و في عهد دولي غير مكترث بمجموعة قليلة تعيسة في مستوى الوعي و مستوى المعيشة، في بلد هامشي، في طرف القارة الإفريقية! إننا نتحدث عن حقبة نهاية الستينيات و بداية السبعينيات من القرن الماضي، يوم كان الغرب و الشرق غارقان ، حتى الأذقان، في الحرب الباردة، و قبل أن تتفرد أمريكا بمصير العالم، عقب انهيار المعسكر الشرقي، 1989،و تصبح حرب تفجير وحدة الشعوب من داخلها عبر ذرائع " حقوق الأقليات العرقية "و المجموعات اللونية" اللعبة الأكثر تسلية للإدارات الأمريكية المتعاقبة، و قبل أن يتحول النضال، في عهد الهيمنة الأمريكية و أنماط قيمها النفعية، من قيمة وطنية نظيفة إلى أوراق ابتزاز سياسية للحكام الضعفاء، الفاسدين، و إلى استثمارات في الدعاية الانتخابية، و للنشاط الاستعراضي لأخذ الصور على منصات المحافل الغربية ل"حقوق الإنسان"!!
إن جحود نشطاء الكراهية لدور الحركات الوطنية التحررية في بث الوعي و مراكمته في سبيل القضاء على العقليات الرجعية و الممارسات الاستعبادية المقيتة، بين مكونة لحراطين و مكونة البيظان، يعتبر لؤما أسود ؛ و لا يمكن أن يصدر من صاحب عقل سليم ، أو من خلفية نضالية نزيهة؛ بل إن كفر الجحود، هذا، بالنضال الوطني الذي قادته الحركات الوطنية لصالح مكونة لحراطين، بلا خلفية نفعية سياسية أو انتخابية أو دعائية ابتزازية، في حقب التعذيب الجسدي و الملاحقات البوليسية على الكلمة يوميا من قبل الأنظمة الاستبدادية، و في غياب اهتمام العالم بهذا الملف، تحت أي ذريعة، إن هذا الجحود لا يستبطن إلا رغبة دفينة لدى أصحابه في عزل لحراطين عن عمقهم الثقافي و الحضاري و التاريخي، الذي لن يجدوا عنه بديلا و لا تعويضا في التقوقع داخل " غيتوghetto " يلعن اللاعبون فيه ظلام الماضي و يطفئون كل شمعة نور في الماضي أو في المستقبل .
إن العالم على شفير اندلاع حرب عالمية ثالثة، ستتغير، حتما، بسبب نتائجها خرائط الدول الحالية و تتمايز المجموعات الثقافية و الحضارية و القومية. فأين يريد تجار الكراهية، بين لحراطين و البيظان، أن يذهبوا بمكونة لحراطين حين تتشكل دول القارة الإفريقية من جديد على أسس ثقافية تاريخية و تتبدل الجغرافيا السياسية غير الجغرافيا التي كانت موجودة ؟ أيذهبون بهم إلى عمقهم الثقافي الحضاري العربي، أم يذهبون إلى عمق اللون الأسود جنوب الصحراء؟ و مع أي من الهويات الثقافية للسود الأفارقة سيبدأون رحلة تأسيس الاندماج الثقافي الحضاري ، فالمماثلة في سواد البشرة لا يكفي للاندماج ... فتحت لون البشرة قرون و قرون من الثقافة و العادات و التقاليد و التصورات عن العالم ، و فلسفات القيم و الجمال و التعابير عن الأفراح و الأحزان، و الطرب، و الزي و المأكل و المسكن... فهل يدمج تجار الكراهية لحراطين مع دولة الولف؟ مع دولةالفلان؟ مع دولة السوننكى؟... أم مع دولة السرير، أم مع دولة البمبارا، أم مع شعوب الموشي... ؟ و كيف سيؤدون لعبة الدبوس ، هل بزي أصحاب البشرة السوداء أم بدراعة البيظان ؟ و الكلمات التي سيستخدمونها في المديح النبوي، بأي إحدى لغات الشعوب السوداء... أم سيرحلون إلى هنالك بالحسانية و ببحور اغن البيظان و صورهم التخيلية و نظرتهم الجمالية ؟ ... و كم من الوقت سيلزمهم حتى يطربهم منشدو السود و أسرهم الفنية كما كانت تطربهم ديمي بنت آبه و سدوم ولد أيده ، و عليه بنت أعمر تشيت ، و أسر أهل الميداح و أهل اشويخ و أهل انكذي ... و ولد عوه ؟ و بأي لغة سيسمعون الهول( الطرب) ، بلغة الولف السود، أم بلغة البمبار؟ و مساكنهم ، كيف ستكون؟
و أين سيكون موقعهم الاجتماعي على خريطة هرمية المكونات الثقافية- المهنية culturo- professionnelle للشعوب السود الأفارقة، جنوب الصحراء، التي تعد أقوى الوضعيات الثقافية تعنتا و تشبثا بهرميتها الاجتماعية التاريخية في وجه العولمة و تحدياتها الثقافية و القيمية!
إن قادة الكراهية و منظريها عليهم أن يدرسوا خيارهم بعقلانية ، من الآن، ما بعد النجاح في إحداث الفصل العنصري و الهوياتي بين العرب السمر، لحراطين، و البيظان، العرب الطينيين، ، فالهدم سهل، لكن البناء عسير، و الكراهية بين الشعوب كالكسر للزجاج، لا جبر له!!
حفظ الله بلدنا من فساد حكامه و غبائهم، و من ثوار التبغيض المجتمعي...
محمدالكوري العربي