عالم تافه جدا ً
بقلم الاستاذ الدكتور محمد طاقة
نحن نعيش اليوم في عالم تافه... إلى حدٍ لا ُيصدق ، عالم أصبحت فيه ِ ثقافة التفاهة تهيمن على الحياة اليومية ، وتَحكُم العقول ، وتُحدد مسارات المجتمعات .
ان نظام التفاهة والرداءة والإنحطاط يُتيح لمحدودي الفكر والأ خلاق ... والشواذ (غير الأسوياء ) ان يصبحوا قادة الرأي ، وأصحاب السلطة ، بل يُصنع منهم ...رموزاً اجتماعية وثقافية .
في هذا النظام ، يمكن لشخص ٍ جاهل ، يُتاجر بالمخدرات ، ويُمارس الرذيلة ، ويستغل نفوذه ُفي السرقة والفساد ، ويُعزِّز الطائفية والعشائرية ، ثم يصبح بعد ذلك... قدوة يحتدى بها في المجتمع ، في حين يُقصى أهل الفكر والنزاهة ، ويُحاصر المثقفون والمبدعون .
في العراق ، كما في كثير ٍمن دول العالم ، باتت التفاهة ؛ هي التي تحكم المشهد السياسي والاقتصادي والإجتماعي والإعلامي والثقافي .
لا وجود اليوم للعلم أو التفكير العقلاني ، بل يتم تهميشهما لصالح الرداءة السطحية .
تسلّلت التفاهة إلى السلطة ، فأفسدت السياسة ، ونهبت الاقتصاد ، وسمّمت الثقافة ، وحوّلت الإعلام إلى أداة ٍ لنشر الجهل .
ولم يُعد الإعلام صوت الحق ، بل صار َ سلاحاً في يد التافهين ، يستخدمونه لتوجيه الرأي العام ، والتلاعب بعقول الشباب ؛ حتى غدت المفاهيم مقلوبة ، الفضيلة تُدان ، والرذيلة تُحُتَفى بها ، والأخلاق ينظر اليها كقيود متخلِّفة ، في حين يُرَوجْ للإنحلال والإنحطاط كتحررٍ وحداثة .
ان ثقافة التفاهة ليست مجرد حالة ً عابرة ، بل هي منظومة مُتكاملة تدفع بالمجتمع نحو الحضيض ( أي الدرك الأسفل ) .
التافهون : هم من يُحدّدون الأولويات ، وهم من يرسمون معالم المستقبل . اصبح النجاح يقاس بعدد المتابعين على مواقع التواصل ، وليس بالإنجاز الحقيقي ، شاشات التلفزة ووسائل الاعلام الاكترونية ، لم تعد تروج للقيم والعلم ، بل تصنع من الجهلاء المُبتذلين ( نجوماً ) يُسخر لهم كل شيء ؛ى ليصبحوا قدوة للأجيال القادمة .
لقد أتاحت وسائل الإعلام الحديثة ، لا سيما شبكات التواصل الإجتماعي ، للتافهين فرصة الظهور والإنتشار ، واصبحت المَنصات الرقمية ساحات لترميز الجهل والسطحية .
مشاهد ( السوشيال ميديا ، والفاشنيستات ) وأصحاب المحتوى التافِه والهابط يتصدّرون المشهد ، بينما يُدفع بالمفكرين والمثقفين إلى الظل ، فلا يسمع لهم صوت ، تُسخر هذه الأدوات لإعادة تشكيل وعي الناس ، لخلق حالة من التطبيع ... مع الإبتذال والانحطاط ، بحيث يصبح التفاعل مع التفاهة أمراً مألوفاً ومقبولاً ، بل أسلوب حياة .
نحن نعيش في عصر ٍ طغت فيه المادة على كل شيء سوي ومعنوي ، فصار المال أهم من الوطن ، وأعلى من الشرف والكرامة .
تحوّل الدين إلى وسيلة للإرتزاق والسيطرة على العقول ، فبدلاً من أنْ يكون مصدر الهام وتهذيب للنفوس ، بات َ وسيلة للتخدير والتجهيل .
عندما ترى مئات الألاف يتبعون شخصية تافه ، ويقدسونها دون تفكير ، ويدافعون عنها بإستماتة ؛ تُدْرِك تماماً مدى الإنحطاط الذي وصل اليه المجتمع .
إن ّ التافه عندما يُمنح ُ سلطة ، فإنه يعتقد أنه اكثر فهماً من غيره ، لذا لايَقبل النقاش ، ولا يسمح لأي صوت ٍ مُغايرٍ بالظهور .
لذا ... فإن الحوار مع التافهين عبث ٌ لاطائل منه ، لأنهم قادرون على استدراجك إلى مستواهم ، ثم هزيمتك بخبرتهم في النقاش السخيف .
لقد فهمنا تفاهة الحياة ، وإنحطاط النفس البشرية ، حتى باتت الحياة في ظل هذا الواقع ؛ مزعجة ومستفزة .
إن ّ المثقف الحقيقي ، عندما يجد أن ّ الغباء والتفاهة قد تفشّيا في المجتمع ، فإنة يختار العزلة المؤقتة ، ليس لإنه انطوائي ، بل لأنه يرفض ان يُنهك في جدالات عبثية مع السطْحيّين ، وكما قال ديستويفسكي (( جرب ان تظل وحيداً لفترة ، ستجد ان البشر بلا اي فائدة حقيقية سوى ... إنهاكك في تفاهة سطحية لمشاكلهم النفسية ، طوال الوقت )) .
ان العُزلة ليست هروباً ، بل فرصة لإعادة التفكير ، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الواقع المرير .
وكما قال الفيلسوف الكندي ( الآن دو نو ) : (( لقد حسم َ التافهون المعركة لصالحهم ، لقد تغيّر الزمن ، لم يعد زمن القيم والمباديء ، بل زمن الرداءة والإنحطاط ،
فالتافهون قد أمسكوا بكل شيء ٍ ، وأحكموا قبْضَتهم على السلطة ، والاقتصاد والثقافة ، والإعلام .
عند غياب القيم والمباديء الراقية ، يطفوا الفساد ( أي السطح ) ، ويتحوّل الإنحطاط إلى ذوق عام ... والاخلاق الى موضة قديمة )) .
نحن نعيش في زمن يُهيمن ُ فيه الصعاليك والجهلة ، حيث تكافأ الرداءة ، ويُسحق الأبداع ، ويُقصى أصحاب العقول الحرة .
لم يعد معيار النجاح هو الكفاءة ، بل القدرة على التسلق فوق أكتاف الآخرين ، واستغلال النفوذ ، وتقديم الولاء الأعمى لمن هم أعلى .
لم تكن التفاهة نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات ، بل هي تفاهة مُخططة ، هناك نظريات ترى :
أن الترويج للتفاهة ليس عشوائياً ، بل جزء من استراتيجية مدروسة تّتبعها القوى المهيمنة ( سواء كانت دولاً كبرى ، او نخباً مالية وإعلامية ) لإبْقاء الشعوب في حالة من الغفلة واللاوعي .
فبدلاً من ان ينشغل الناس بالتفكير في قضايا ... مثل العدالة الاجتماعية ، والفساد ، والاستقلال الاقتصادي ، والتحرُّر ، يتم إغراقهم في قضايا تافهه ، مثل حياة المشاهير ، والترفيه السطحي ، والنزاعات الطائفية ، والنقاشات العقيمة ... على مواقع التواصل الاجتماعي .
التفاهة : هي ليست صدفة ، بل هي اداة استخدمتها الصهيونية العالمية والمنظومة الرأسمالية كوسيلة للهيمنة .
والرأسمالية هي التي صنعتها ، لأن الرأسمالية لا تهتم بما هو نافع ، او ذو قيمة ، بل تهتم بما يحقق لها أرباحاً ، والمحتوى التافه... يحقق انتشاراً واسعاً لانه سهل الإستهلاك ، ولا يتطلّب تفكيراً عميقاً .
لذلك يتم الترويج له على حساب المحتوى الجاد ، الذي يوْقِض وعي الجماهير ويدفعها للمطالبة بحقوقها .
المنظومة الرأسمالية ، تدرك تماماً ان نشر التفاهة يضعف المجتمعات ، ويجعلها أكثر طوعية ، وأقل قدرة على المقاومة ، لذلك فان مواجهة التفاهة ليست مجرد معركة ثقافية ، بل هي معركة وجودية تهدف إلى استعادة الوعي ، واعادة بناء منظومة قيمية تحترم العقل والفكر ، بدلاً من تقديس الابتذال والسطحية ..