قراءة مغايرة لوعد "اترامب" بتهجير سكان غزة !!!!!
في أمريكا نظام حكم مكتمل الأركان، مراكز بحثية تنتج الرأي ونظام يستمع إليه ومؤسسات سياسية وإعلامية تلتقط هموم الناس ، تدرسها بعناية ، أسبابها وسبل التجاوب معها ثم تستنتج وتستخلص ، ومراكز حزبية تتشارك المشورة في صنع القرارات وصياغتها وإعادة قراءتها وتكييفها لتكون في خدمة أمريكا ؛ و يضطلع الرئيس بدور محوري داخل هذه الشبكة التفاعلية ولا يشترط في انتخابه أن يكون كَيِّسا ولا يشترط فيه لباقة ولا حسن بيان ؛ فالإقتراع قد يأتي بالغث من الناس وقد يأتي بالسمين وغالبية رؤساء أمريكا ، غثهم وسمينهم دمى في يد الصهيونية المسيحية المنتشرة في عموم البلاد...
رئيس أمريكا الحالي لم يُخلق لفهم ولا لتدبير العلاقات الدولية فهو يجهل التاريخ والجغرافيا ولا يعلم شيئا عن ثقافات الأرض ولا عن شعوبها وقليل ما يعلم عن ماضيها وحاضرها و لا تهمه أصلا كما لا تهم غالبيةَ الأمريكيين وحين فرضت عليه مسؤولياته الرسمية، كرئيس لأقوى دولة في العالم، أن يتعاطى مع الشأن الخارجي كانت سِمة مِشواره مراكمةَ الفشل على الفشل ولم يحقق فتحا في أمر عصي ولا حتى اهتدى لمخارج تبعث بصيص أمل في حله ....
طباع الرجل خشنة وسلوكه فج ومضطرب ولسانه في منتهى السماجة و الغطرسة والوقاحة؛ فهو بمقاييس العقل البشري المتعارف عليها غبي للغاية وجاهل للغاية ولكنه في المقابل أمريكي من كبار المترفين ، يميني الميول، نزق المراس ، يروق حديثه لغالبية قومه ، يذكرونه بحسن أداء إدارته يوم كان في مأموريته الأولى ويأملون منه المزيد منذ عاد للسلطة ثانية ولا يهمهم إن فشل خارج أمريكا ف"أمريكا أولا" هي الموثق الجديد بين الشعب والحاكم ..
تراجعت البطالة خلال مأموريته الأولى وتحسنت ظروف المعيشة واتسع مجال التغطية الصحية وتطورت سبل التداوي كثيرا فازداد التيار الإنكفائي انتشارا في الولايات المتحدة وازداد الشعور أن أمريكا "المَرْكانتيلية" هي القادرة على ضمان حياة أفضل للمواطن الأمريكي، الْتَفَّ الناس حوله وفاز فوزا ما سبقه له أحد ، الرئاسة وغالبية حكام الولايات وأغلبية النواب وأغلبية الشيوخ....
وبعكس نجاح مقارباته داخل أمريكا، فشلت مقارباته في كل الملفات خارجها وكان كلما تعرض لموضوع تكون النتائج عكسية والآثار كارثية.....
طار لبيونغ يانغ عاصمة مَلَكية كوريا الشيوعية يحدوه أمل كبير أن يُبعد خطرها النووي المحتمل عن جارها الجنوبي حيث قواعد أمريكا العسكرية وعن أمريكا نفسها على الشاطئ الغربي للمحيط الهادي وأن يبعد خطرها عن اليابان، مستعمرة أمريكا في المنطقة ، فَظَنَّ أن عبارات الود مع "الأمير الشيوعي" الشاب كفيلة بأن تغير من موقفه المعادي لأمريكا وحلفائها في المنطقة فكانت النتيجة أن امتلكت كوريا السلاح النووي وصرحت بذلك على رؤوس الأشهاد ثم زادت بأن طورت صواريخ فرط صوتية مخيفة قادرة على نقله حيث يشاء مزاج الحاكم غير المأمون......
حاول تسويق "دين ابراهيم" فخرج من البيت الأبيض ولم يخْطُ المشروع أية خطوة ومن بعده بدأت الدعوة تتراجع وتتعاظم أعداد الرافضين لها ويزداد المشككون فيها ويتوارى من كان انتصر لها من قبل....
لكن تتبع مسار الرجل يخلق انطباعا أن عربدته وصولاته اللفظية الطائشة هي في حقيقتها نمط استشعار خاص في تدبير السياسة يساعد مراكز صناعة القرار في تلمس المقاربة الأمثل واتخاذ الموقف الصحيح فتصبح قابلة للرسملة في كل الأحوال.....
بعض قادة العالم سترعبهم تهديداته فيسارعون لإسترضائه فيحصل منهم على ما أراد من دون كلفة كبيرة وربما بكلفة صفرية وبعضهم أصلب عودا وأقوى شكيمة سيرفضونها ويتحدونه فيشمرون عن سواعد المواجهة فينكفئ من دون حياء ؛ فَشِلَت تهديداته مع هؤلاء ولكنها نجحت في استنطاق ما هم قادرون عليه حين تتوجب عليهم مواجهة أمريكا فمنح ذلك فرصة للرئيس أن يتدبر أمره قبل فوات الأوان ......هنا يأتي دور منظومة الحكم لإصلاح ما قد يكون حصل من عطب في العلاقات مع هذا وما يكون قد حصل مع ذاك ؛ يخرج المتحدث بإسم الأبيض "لتوضيح ما كان الرئيس يقصد"، يتراجع الرئيس ويعكف النظام على تكييف الموقف الرسمي مع المحددات التي أنتجت ردات الفعل الممانعة....
هدد كولومبيا ، الدولة الأمريكية الكبيرة، وظن أنه مخيفها فجاءت ردة فعل رئيسها بلغة عنيفة حادة ومتحدية وبنبرة تخبر عن استعداد فروسي للمواجهة ؛ تراجع الرئيس المتهور في رمشة عين وكأنه ليس هو الذي هدد وليس هو الذي توعد بالأمس....
أما حين أعلن عن عقوباته في حق جاره الجنوبي المكسيك ، سارعت الرئيسة فأبرقت إليه بخطاب مفتوح ، فيه عن كل بضاعة أمريكية إسم بديل، وافر بالأسواق، منافس بجودته وسعره وسرعة توصيله فتبين للرئيس التاجر أن عقوباته قد تحمل له من الخسائر أكثر بكثير مما قد تجلب له من منافع فانكفأ وتراجع قبل أن ينبلج الصبح.....
ثم جاء الدور على كندا، جاره الشمالي والعضو الكبير في مجموعة الثمانية ، توعدها بالويل والثبور أن تفعل ما يطلبه منها أو تتهيأ لتصبح الولاية الواحدة والخمسين فسارع رئيس وزرائها المستقيل واستنفر شعبه أن يستعد لكل احتمال فتراجع اترامب عن كل ما أعلنه بالأمس وتكلفت ماكينة النظام بعملية التصويب وتكفل الإعلام بوضع المساحيق ......أما مع الصين فلن يكون له يقينا أدنى أمل أن يفوز ولن يكون حظه أوفر مع روسيا ولا مع أي من كبار العالم الجديد........
أفكار الرجل التي صرح بها في موضوع غزة مستحيلة وأول من يوقن باستحالتها ، أمريكا برئيسها ورؤسائها وحزبيها ثم إسرائيل؛ والجميع له مصلحة في وقف العمليات القتالية في غزة، إسرائيل و أمريكا والحزب الجمهوري والرئيس اترامب نفسه ولا شك أن وقف القتال فيه أيضا مصلحة كبيرة لشعب ينزف منذ خمسة عشر شهرا....
يدرك ترامب جيدا ويدرك اليمين الأمريكي ، عقلاؤه وسفهاؤه ، أن من ولى هاربا لا يلوي على شيئ يجر أذيال الهزيمة أمام عناصر قليلة من جماعة محمد فارح عيديد الصومالية لن يجد في غزة مستقرا ولا مقاما وسيذوق فيها جيشه هزيمة لا نظير لها في سجل هزائمه الطويل كما فعلت بجيش الصهائنة يوم مرغت أنفه بالتراب وأذاقته هزيمة ومآسي ما عاش مثيلا لها منذ ما يقارب ثمانية عقود.....
اليمين الأمريكي يدشن عهدا جديدا تقوم هندسته على أساس خطورة فلسفة اليسار على الأمة الأمريكية وأن كل تمدد خارجي يكون على حساب التماسك المجتمعي الداخلي وأن أمريكا بحاجة لتمتين العلاقات البينية داخل المجتمع وبين الأقاليم وأن عليها أن تعيد توجيه كل مواردها للداخل وأن تتحول المفاضلة بين دول العالم من مناظرة حليف بغير حليف إلى مقاربة فُرص بفُرص ومنافع بمنافع......
أما عن اترامب نفسه فالمصالح الشخصية عادة ما يكون لها تأثير كبير في رسم قرارات الرئيس في أمريكا فبعضهم مرتبط بالمجمع الصناعي العسكري وبعضهم بمجمع الصيدلة وبعضهم بعالم المال والبعض الآخر بالعقار والإنشاءات ومن هذا الصنف الأخير يعتبر اترامب وإبنه وصهره من كبار الفاعلين فيه....فلا مصلحة شخصية للتاجر الرئيس أن يشعل الحروب وله في السلم مصالح جمة وله تحديدا في الشرق الأوسط المدمر ما يُسيل اللعاب وخاصة موضوع الإعمار في غزة والإستثمار في البنى التحتية المدنية التى لم تُبق منها إسرائيل حجرا ولا مدرا....
ثم إن للرئيس اترامب صديق وَفِي "إلون ماسك" يعود له الفضل الكبير في ترويج خطابه ونشر فلسفته وفوزه الساحق وهذا الرجل يستثمر في الذكاء الإصطناعي الذي يحتاج قاعدة ديمغرافية واسعة وجوا من السلم العالمي يسمح بالإستفادة من الكثافة الديمغرافية في العالم بحثا واستهلاكا وليس من بين العناوين ما هو أفضل من آسيا وإفريقيا ومن يتمكن من الفوز بالسباق في هذا المجال سينتصر على خصومه من دون حرب....
ذكرت بعض التقارير أن الجمهوريين يهمهم كثيرا أن يفوز أحدهم بجائزة نوبل للسلام ، فما فاز بها أحد منهم من قبل و قد يكون السلام في غزة فرصة مواتية لا يجوز تضييعها، فالظروف مهيأة لوقف القتال بعد أن فشلت إسرائيل في تحقيق أهداف حربها وتعاظمت خسائرها البشرية والمادية والمعنوية والسياسية والنفسية إلى حد لم تعد قادرة على تحمله فأصبح وقف العمليات القتالية مصلحة إسرائيلية ملحة لا تحتمل التأخير فتقرر أن يرعى الرئيس هذا السلام ثم تتم لاحقا رسملة الإنجاز فيفوز لأول مرة رئيس جمهوري بجائزة نوبل للسلام ....
لكن الحكومة الإسرائلية هشة وتوقف العدوان يحتاج أن يغلق الباب أمام من هو أكثر تطرفا من الليكود وأن يبقى نتنياهو في السلطة وهذا شرط محفوف بمخاطر جمة. لا يمكن لنتنياهو أن يستمر في السلطة من دون دعم "اسموتريتش" بعد أن هجَرَه بن غفير ولا يمكن له أن يأْمَنَ اليد الممدودة إليه من اليسار في إسرائيل مطلقا لأنه يعلم علم اليقين أن علاقة مفترضة مع هذا اليسار أوهن من بيت عنكبوت وستعني حتما إما تمييع اليسار أو تمييع اليمين وهذا يعني موت الطرفين لصالح "بن غفير" و"سموتريتش" ولن يقبل به لا الليكود ولا حزب العمل.
من جهة ثانية يحتاج "اسموتريتش" لما يصون به ماء وجهه أمام جمهوره الموغل في التطرف والعدوانية، ليبقى في إئتلاف مع "نتنياهو" فكان الوعد بالتهجير....
لا يدري أحد ما الذي جرى بالضبط داخل الغرف المظلمة ولكن نتيجة ما حصل أن اتفق الجميع أن يكون اترامب صاحب عملية الإخراج فأعلن وعده بتهجير أهل غزة فمنح ذلك مبررا يدفع به "سموتريش" أمام ناخبيه ليبقى في الإئتلاف الحكومي بحجة أن خطة ترامب ستحقق حلم إسرائيل الكبير وليس فقط أهداف العدوان...
حين تتوقف الحرب في غزة ستبدأ رحلة التطبيع مع السعودية ثم يبدأ إعمار غزة بمال خليجي وشركات أمريكية سيكون أغلبها مملوكا للرئيس وإبنه وصهره ثم تبدأ الرحلة الثانية من مشروع "البيت الإبراهيمي" بتنقية الأجواء بين الخليجيين وإيران فينشأ جو يسمح له باستنزاف الطرفين وتكديس أموال طائلة ثم تزدهر تجارته وتجارة صهره من خلال إعادة إعمار سوريا الأردوغانية وفتح أسواق إيران وتسويق نموذج حكم يجعل من التجارة السلاح الأقوى لضمان الهيمنة والتوسع وتنشيط السوق الأمريكية وإعادة الروح للدولار في مواجهة دول ومنظمات قوية ترفض توسع أمريكا وهيمنة عملتها......
يأمل الرئيس أن يؤدي مشروعه لإختناق اقتصاد أوروبا المنافس و تراجع القبضة التجارية الصينية في المنطقة فيصبح النموذج "الترامبي" مثالا في أمريكا ويصبح "اترامب" صانع سلام في العالم ويكون أول رئيس جمهوري ينال جائزة نوبل للسلام وخامس رئيس أمريكي يفوز بها ورابع من يحصل عليها خلال فترة حكمه......