عندما تحتضر إمبراطورية فتية -2
النقيصة الأساسية في الستراتيجية الغربية
صلاح المختار
لو تتبعنا تصريحات دونالد ترامب وقادة آخرين حول الوضع الداخلي في أمريكا والشكوى من تراجعه وانهياراته والذي وصل إلى حد أن ترامب عندما يقارن حالة امريكا بالتطور العمراني السعودي،مثلا مطارات السعوية يقارنها بمطار لوغوارديا في نيويورك ، يقول إننا متخلفون جدا ! ويعكس هذا الكلام شعورا عاما لدى نخب أمريكا التي ترى أنها لم تعد بلد الاحلام الكبيرة والفرص النادرة التي لا تضاهى فتجذب خيرة كفاءات العالم إليها، ولكنه وهو يذكر السعودية فان باطن عقله يذهب للصين حتما حيث تجري عملية نهوض شامل فريد وعارم، وعندما يقارن وضع امريكا المتخلف والمأزوم بالتقدم الصاروخي للصين يكون من الطبيعي أن رد الفعل الأول لهذه النخب الأمريكية هو طرح سؤال التالي: كيف يمكن أن نعيد أمريكا إلى عظمتها بعد كل ما حل بها من خراب وتراجع وصل أحد التشكيك بديمقراطيتها وقواعد قيامها الأساسية ؟ وكيف تعاد لصرخة بوش الاب بعد انهيار جدار برلين قدرتها على التحقق ،وهي التي بشر فيها بان القرن الحادي والعشرين سيكون قرن امريكي بلا منازع ،والكل يرى ان امريكا لاتملك الحد الادنى من مقومات النهوض والسباق مع الصين؟
وعند محاولة الجواب سنرى ان البرنامج الذي قام عليه مشروع ترامب هو إنقاذ الرأسمالية الأمريكية من حالة الانهيارات الكبيرة التي تعرضت لها، وبما إن قوانين الرأسمالية لا تسمح بالرجوع إلى الخلف ولا بد من أن تستمر في التطور إلى أمام ، وهو مغلق بأحكام أمامها كنظام استنفد قدراته وحان دفنه ، فإن أمريكا تحتاج إلى عمليات جراحية كبرى غير تقليدية، داخلية وخارجية معا، كي تستطيع أن تقف على قدميها لتمنع الصين من إزاحتها عن قمة العالم والحلول محلها ولو مؤقتا، وهكذا نرى إن وصول ترامب للادارة الامريكية مرة ثانية ليس مجرد عمل فردي، ومن يتصور ذلك لا يفهم طبيعة النظام الرأسمالي الأمريكي ومن يتحكم بأمريكا، فترامب بما عرف عنه من تجربة بسيطة ومن سمات متوحشة وبدائية جدا (مثلا تصريحاته الفجة حول ضرورة اخذ نفط العراق والكويت وضم كندا وقناة بنما وجزيرة جرينلاند ) لا تمكنه من إدراك الأبعاد الاستراتيجية المعقدة لوضع أمريكا والعالم، وإنما هو ممثل لتيار رأسمالي قوي وتزداد قوته كلما تدهورت مكانة أمريكا ، ووصول ترامب إلى الرئاسة مرة ثانيه هو نتاج دعم تلك الشرائح الأساسية من النظام الرأسمالي والتي تزوده بالتوجيهات والمعلومات.
وبعكس ما يروج فان الدولة العميقة هي التي دعمت ترامب لمواجهة نخب من داخلها كانت تريد خيارا آخرا ،وثمة فرضية منطقية لها ما يدعمها من مؤشرات قوية وهي ان الحكومة الخفية انقسمت حول كيفية انقاذ امريكا من الانهيار ، وتدهور حالة أمريكا هي التي أجبرت النخب الأمريكية الأساسية على اختيار (نظرية الرجل المجنون) ليتولى رئاسة أمريكا، والتي تقوم على أن يطلق الرئيس الأمريكي تهديدات بالسحق والمحق والتدمير الشامل لمن يقف بوجه أمريكا،وبما أن أمريكا تملك القوة الكافية لدعم هذه التهديدات وإقناع الأغلبية بأنها يمكن أن تتعرض للغضب الأمريكي إذا ما رفضت الإملاءات الأمريكية، فإن نظرية الرجل المجنون،(وتترجم إلى الرئيس المجنون) كما ترى النخب الامريكية سوف تؤدي إلى استسلام كثير من الدول قبل أي حرب ، وهذا بالضبط هو الهدف الجوهري من جعل شخص عدواني محدود التجربة والوعي رئيسا في مرحلة التراجع السريع لقدرات امريكا العامة.
فهل يستطيع ترامب أن ينفذ تهديداته وبالصورة التي عبر عنها مرارا؟ ثمة نقيصة اساسية تمنع امريكا من تحقيق كثير من تهديدات ترامب، فطوال تاريخ الحرب كانت المعارك البرية هي التي تحسمها،واستخدم سلاح الجو والمدفعية لتمهيد الطريق للقوات البرية كي تمسك بالأرض وتنهي وجود العدو فيها، وبناء عليه برز الترابط العضوي بين الحرب الجوية- الصاروخية والحرب البرية وأصبح ذلك من قواعد الحرب. فلا انتصار كامل الا بالسيطرة الارضية بعد تدمير قوة العدو جوا ، فهل تغيرت هذه المعادلة؟
نعم المعادلة تغيرت وبطريقة تعمل ضد مصلحة الغرب خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في فلسطين، حيث أن ضعف روابط الوطنية والدين والأمة وتجذر النزعة الفردية في ظل الليبرالية التي جعلت الفرد قلعة منعزلة قائمة بذاتها،كشف الضعف الاساسي في بنية المجتمعات الغربية وهو التسييد المنظم للفردية والأنانية والعزلة ، وهو ما أدى إلى تغليب مطلق لفكرة (الأنا) على (النحن) !
ثبّت حب الحياة بصفته المحرك الأقوى للإنسان في الغرب حتى لو تم ذلك على حساب الحقوق والمبادئ، فالمبادئ وروابط الوطنية والدين والقيم العليا اصبحت تابعة لمصلحة ولذة الفرد. وهكذا حصل افتراق جوهري بين التكوين النفسي للمواطن الغربي والمواطن الشرقي، فالمواطن الشرقي،وعلى النقيض من المواطن الغربي، تحكمه (النحن) وليس (الأنا)،و(نحن) تعني العائلة والعشيرة والمحلة والوطن والأمة والدين ومفاهيم الشرف والكرامة ، وتتوج بالهوية القومية، وهذه كلها حلقات علاقات عضوية منداحة بين المواطن الشرقي والناس والمكان الذي يعيش فيه، وتجعله مؤمنا بأن التضحية من أجل هويته وحيزه الجغرافي وارتباطاته السكانية أقوى من ألانانية الفردية، وانعكس ذلك على الحرب ومفهومها وقواعدها .
وحينما نقول المواطن الغربي فنحن نقصد الأمريكي والكندي وغرب أوروبا وإسرائيل الغربية، أما حينما نتحدث عن المواطن الشرقي فتتصدر القائمة أسماء الصين واليابان وروسيا والعرب وتركيا، فهذه الشعوب على عكس الشعوب الغربية تربت على مفاهيم وتقاليد الشرف والبطولة والتضحية من أجل الوطن والدين والأرض والهوية القومية، وانعكس هذا التناقض الواضح في تشكيل المجتمعات الغربية ومجتمعات الشرق، على الحروب التي شهدها القرن ال20 والقرن ال 21 فظهرت النقيصة الستراتيجية الأعظم في جيوش الغرب وهي الضعف البارز في القدرة على القتال على الأرض عند المواجهة الجبهية مع العدو الشرقي، وبالتالي فإن نتيجة الحرب لا تحسم لصالح الغرب رغم تفوقه بالسلاح والامكانيات التكنولوجية...الخ.
وإذا تذكرنا حرب نابليون على روسيا وغزو ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية لروسيا سنجد أن الهزيمة الفرنسية والألمانية في روسيا لم تكن فقط بسبب الطقس القاسي بل أيضا وبدرجة أهم الإرادة الحديدية للقيادة الروسية ( ستالين بشكل خاص) وللجيش الروسي وتأثير القومية الروسية والتاريخ الروسي والارثودوكسية اكثر من تأثير الماركسية – اللينينية، ولا أحد يستطيع تجاهل نداء ستالين للشعب الروسي بأسم الاباطرة العظام كي يقاوم الغزو رغم ان نظامه البولشفي اعدم اخرهم ! كل ذلك ساهم في استنهاض الهمم في روسيا، وفي الصين قاتل ماو تسي تونغ الثري ماديا الذي قاد جيوش الفلاحين لاسقاط نظام جان كاي جيك وخوض حرب التحرير ضد اليابان ،وهذا ينسحب على الحروب الحديثة في فيتنام وفلسطين ويوغسلافيا والعراق حيث أن التفوق الشرقي في المعارك البرية كان بارزا بينما كان الغرب متفوقا في القصف الجوي الصاروخي وفي الطائرات ومؤخرا في الطائرات المسيرة (الدرونز).
أمريكا ورغم تفوقها العسكري التام على فيتنام وعلى العراق فشلت في الحرب البرية أمام حرب العصابات التي شنتها في فيتنام جبهة التحرير الوطني الفيتنامية وفي العراق المقاومة الوطنية العراقية بعد الغزو مباشرة، وأثبتت كلا الحربين أن الجندي الأمريكي لا يستطيع أن ينتصر في القتال الجبهي مع العدو،ومعركة ألفلوجة تثبت هذه الحقيقة. وهذا ينطبق على فلسطين حيث أن المقاومة الفلسطينية في كل مراحل انبثاقها منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى الآن أكدت هذه الحقيقة الميدانيةحيث كان الفلسطيني هو البطل والذي تنتاب الجندي الاسرائيلي كوابيس مدمرة بمجرد ان يعلم انه ذاهب لمواجهة مقاوم فلسطيني.
لماذا ينهار الاسرائيلي امام الفلسطيني عندما يشتبكان مباشرة ؟ ما يسمى المواطن الإسرائيلي حديث العهد بهذه الهوية في إسرائيل الغربية التي تأسست بالقوة في عام 1948 ولم يكن عدد اليهود في فلسطين يتجاوز في بداية القرن العشرين 3 % من السكان وبقية اليهود جاؤوا من أوروبا الشرقية بالدرجة الأولى وهم من يطلق عليهم اسم يهود الخزر، ولهذا فالإسرائيلي هو الأضعف معنويات من بين كل جيوش العالم، وهذا ما أثبتته المقاومة الفلسطينية أولا بانطلاقتها في الستينيات بقيادة فتح وأكدته بصورة حاسمة عملية طوفان الأقصى والتي أثبتت بشكل حاسم أن الجندي الإسرائيلي منهار معنويا مسبقا ، الأمر الذي يفسر القسوة المتطرفة التي تبديها إسرائيل الغربية ضد الشعب الفلسطيني في القتل والتهجير الجماعيين والتجويع المنظم وتعمد قتل المدنيين وتدمير المستشفيات، وكل ذلك يتم بالقصف الجوي والصاروخي من أجل إخلاء الأرض من سكانها ثم السيطرة عليها بلا قتال أرضي طويل او واسع .
إن هذه المقدمة ضرورية جدا للوصول إلى جوهر الموضوع وهو أن المواطن الغربي الذي لا يستطيع القتال لفترة طويلة في الأرض يحتاج لحسم الصراع من الجو بالصواريخ والطائرات والأقمار الصناعية والتجسس الفائق التطور وهو ما شاهدناه يحصل من انهيارات خطيرة في اسرائيل الشرقية (إيران) وفي لبنان وفي سوريا،حيث لعب التجسس وجمع المعلومات الدور الحاسم في القضاء على القوة المركزية لحزب الله في لبنان، أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها طورت أسلحة متقدمة جدا من أجل أن تفرض إرادتها قبل أن تمسك بالأرض، فضعف المعنويات في الجيش الأمريكي لا يسمح بإمساك الأرض بواسطة قوات برية إلا بعد أن تدمر قوات العدو تدميرا شاملا فتتقدم القوات البرية إلى مناطق شبه آمنة.
وهذا المفهوم العسكري ترسخ وظهر واضحا في التعامل الأمريكي مع روسيا والصين ناهيك عن التعامل مع غزة بعد طوفان الأقصى ومع الحوثيين ومع حزب الله حيث كان الحسم يأتي بعمل مخابراتي أو من الجو، وتكفي نظرة إلى لبنان الآن لتقدم لنا صورة واضحة عن هذه الفكرة: فبعد أن أكملت إسرائيل الغربية وبالتعاون الوثيق والمباشر مع الجيوش الأمريكية والبريطانية والفرنسية القضاء على أغلب قيادات حزب الله وأغلب أسلحته فإنها فشلت فشلا ذريعا في احتلال جنوب لبنان رغم أن الخطة كانت أن تغزوه وتحتل دمشق وتصل إلى شمال سوريا ومن هناك تقيم دولة كردستان الكبرى، كما أعلن الوزير الإسرائيلي ساعور وكرر ذلك نتنياهو وغيره من قادة إسرائيل الغربية، ولكن الذي حصل هو أن الجيش الإسرائيلي عجز عن قهر بضعة عشرات من مقاتلي حزب الله في جنوب لبنان الأمر الذي أجبر إسرائيل الغربية على التراجع عن إكمال مسيرة الوصول إلى شمال سوريا.
وهذا الأمر ينطبق على أمريكا: فأمريكا في ذروة قوتها تبنت ستراتيجية خوض حربين في وقت واحد، احداهما حرب برية - جوية والثانية حرب جوية فقط ولفترة محدودة ! الآن وقد شاخت تستطيع خوض معركة محدودة زمنيا ومكانيا ولكنها لا تستطيع التورط في حرب برية شاملة طويلة كالحرب التي تشن على روسيا منذ عامين، ولهذا فان قرار خوض حرب طويلة بيد الكونغرس وليس بيد الرئيس ،ولو ان امريكا خاضت حربا مستمرة تتجاوز العامين لاضطرت الى اللجوء للخيار النووي! كما أن التعامل مع الحوثيين أظهر هذه الحقيقة مرة أخرى، فلو كانت لأمريكا القدرة على خوض حرب برية في اليمن لنجحت في إيقاف الحوثيين منذ فترة طويلة ولكنها تعرف إنها ستغرق في المستنقع اليمني كما غرقت في المستنقعين العراقي والأفغاني وهزمت.
والفكرة المركزية التي تتحكم بما سبق هي أن الجندي الأمريكي ومهما درب وزود بأفضل الأسلحة وبالمعلومات المخابراتية الدقيقة إلا أنه عندما يواجه جنديا شرقيا لا يستطيع كسب المعركة برا ، وهنا تكمن أزمة أمريكا الستراتيجية . وهذا يفسر لم تدفع الولايات المتحدة الأمريكية اطراف اخرى إلى خوض الحروب بدعم منها لكنها لا تخوض الحرب مباشرة لأن النتيجة هي الهزيمة الأمريكية ، وهكذا لا يبقى أمام أمريكا إلا اللجوء إلى الخيار النووي وهذا الخيار هو الانتحار العالمي الشامل وهو مستحيل!
الاستنتاج الرئيس من كل ما سبق شرحه هو أن النقيصة الأساسية في أمريكا ورغم تفوقها تكنولوجيا واقتصاديا وعسكريا، حتى الآن، هي ان جيشها عاجز عن الإمساك الطويل الامد بالأرض المحتلة، ونجاحه مؤقت وسوف تعقبه انهيارات أمريكية جوهرية كما حصل في العراق عندما هزمت المقاومة العراقية أمريكا بتجميع النقاط وليس بالضربة القاضية، فسلمته لاسرائيل الشرقية في عام 2011 رغم ان المقاومة العراقية كانت بسيطة التسليح والقدرات، لكن معنوياتها كانت صلبة جدا بينما معنويات الجنود الامريكيين الهابطة جعلتهم يرون اشباحا تقاتلهم ويصابون بهلوسات ينتجها الرعب .
لنفترض أن أمريكا ألحقت هزيمة بروسيا أو بالصين عسكريا هل ستستطيع إمساك الأرض فيهما أم ستغرق في مستنقع مميت ؟ أمريكا أعجز من أن تمسك الأرض في روسيا وفي الصين وفي بلدان أخرى، وها نحن نرى كيف أن الشعب الفلسطيني في غزة البسيطة المدمرة منذ عام وأربعة شهور ،ورغم المشاركة المباشرة من قبل قوات امريكية وبريطانية وفرنسية والمانية (في قيادة الحرب ومرتزقة من هذه الدول) في الحرب على غزة فإنها صامدة ولا تستطيع القوات الإسرائيلية التمركز فيها بصورة دائمة، واجبرت نتياهو على قبول وقف اطلاق النار فانتصرت المقاومة الفلسطينية دون ادنى شك.
الحرب الحديثة محكومة بمفارقات لم تكن موجودة في السابق، فالذي كان يتفوق عسكريا واقتصاديا كان يحسم الحرب لصالحه، أما الآن فأن أمريكا عاجزة عن كسب الحرب البرية بالمعايير التي شرحناها، وهذه النتيجة تفضي إلى أن كل العمليات العسكرية الأمريكية جوا ليست إلا عمليات تخريب منظم للطرف الآخر ،أما الانتصار بالإمساك بالأرض لزمن طويل فمستبعد ، وهنا تكمن المفارقة الستراتيجية الأعظم في عصرنا وهي التي تدفع بأمريكا نحو المزيد من العنف تجاه الأعداء كلما زاد ضعف معنويات جيشها،إنها ليست فقط مفارقة بل هي مظهر من مظاهر احتضار الغرب وانحداره السريع مقابل صعود الشرق القوي.
[email protected]
26-1-2025