الجريمة المحمية – الجزء الثالث
حين نحمي الفرد ونقتل المجتمع
++++
شاءت الأقدار أن أكون شاهدا على السيارة التي احترقت بمن فيها يوم الأحد الماضي،
وكتبت عن ذلك في مقال الجريمة المحمية – الجزء الأول.
ثم تشاء الأقدار مرة أخرى أن أكون، يوم أمس، على طريق الأمل، في لحظة اختلط فيها الانضباط الظاهر بفوضى متراكمة…
زحام طويل من السيارات عند مركز الشرطة المخصص للخروج من العاصمة،
والمفوض بنفسه يقف هناك،
يتنقل بين السيارات، يراجع كل واحدة تمر عليه،
يتأكد من وجود قنينة الإطفاء،
ومن ربط حزام الأمان داخل المقصورة.
راقبتُ الموقف بدهشة،
ورأيتُ بأم عيني، في بعض الحالات، كيف كانت قنينة الإطفاء تُعاد من سيارة تجاوزت المفوض
إلى أخرى لا تزال تنتظر عند نقطة التفتيش،
وكأنها تذكرة عبور تُتداول حسب الحاجة.
أما الباعة المتجولون، فقد وجدوا في الخوف فرصة،
فارتفع سعر القنينة كما ترتفع الضمائر عند الطوارئ… ثم تعود لتغفو!
هل هذه وقاية؟
هل هذه صرامة؟
أم أننا نردّ على الكارثة بردّ فعل مؤقت سرعان ما يتبخر؟
وهل هذه الإجراءات، حتى لو استمرت، كافية؟
هل نُخمد نار الحوادث بقنينة تُشترى عند الحاجز وتُردّ عند الانفراج؟
أيمكن عدّه من العبث… ولو عن طيب نيّة؟
لكن… تلك ليست القصة الكاملة،
فما شاهدته أمس ليس إلا عرضا من أعراض المرض.
المرض الحقيقي في المنبع:
في الرخصة التي تُباع،
في الطرقات التي تحولت إلى مختبر دمويٍّ لتجريب الجهل،
في السيارات التي يقودها من لم يجلس خلف المقود إلا في الخيال!
في بلدي، كي تتعلم السياقة، عليك أولا أن تحمي نفسك.
كيف؟
احصل على رخصة قيادة، ولو لم تفتح باب سيارة. في حياتك!
بـ 65000 أوقية قديمة، يمكنك أن تصبح سائقا "معتمدا"،
ثم تتجول في المدينة،
قد تدهس، قد تقتل،
لكن لا أحد سيسألك: هل أنت مؤهل؟
بل فقط: هل اشتريت الورقة؟
لقد تحوّلت الرخصة من أداة ضبط إلى رخصة للقتل.
لكن الأدهى من ذلك أن القاتل قد لا يُعاقب أصلا،
فحين تصطدم السيارة بجسد بريء،
تتحرك القبيلة،
ويُعقد المؤتمر،
ويبدأ سباق الترضيات،
وتُذبح العدالة باسم النسب،
ويُدفن القانون تحت أكوام المجاملة!
كم من سكرانٍ سحق الأرواح؟
كم من متهورٍ قاد السيارة كرصاصة؟
ثم تدخلت "العائلة الكريمة"،
وقالت: نعتذر ونطلب الستر!
تتحول الفاجعة إلى مناسبة اجتماعية،
ويُكرَّم القاتل لأنه من "ناسنا"،
ويُنسى المقتول،
لأن قبيلته سامحت، حتى لا يُعاقب قاتلها غدا،
أو لأنها استفادت من عفو سابق عن ابن لها سلك نفس الطريق!
هكذا، ببساطة،
تتحالف الرجعية مع الفوضى،
ويُسحب البساط من تحت رجل الأمن،
ويُتَّهم القاضي بالعناد إن لم يبتسم للوساطة!
وهل ننسى التأمين؟
ذلك الدرع الزائف؟
ادفع ثلاثين ألف أوقية قديمة في السنة،
وإذا ارتكبت الجريمة،
اطلب من الشركة أن "تتفاهم"،
وإن تضررت سيارتك… سامح، أو خذ الفتات!
لا عدالة هنا… فقط تسوية!
ثم نسأل، بعد كل مجزرة مرورية:
لماذا؟
وكيف؟
ومن المسؤول؟
المسؤول… هو المجتمع كله حين يصمت،
وحين يحوّل القاتل إلى ضحية،
وحين يرى أن حماية فرد أهم من حماية وطن!
فما العمل؟ وهل من طريق إلى الإنقاذ؟
1- تأسيس جهاز خاص يتولى مراجعة رخص السياقة ميدانيا،
بامتحانات مفاجئة في شوارع العاصمة وعلى الطرق السريعة،
وأي سائق يُضبط غير مؤهل، يُفتح معه تحقيق فوري،
لكشف كيف حصل على الرخصة، ومن منحها له،
ويُعلن نهاية المسرحية المسماة: "رخصة لمن لم يقد سيارة يوما".
2- تجريم القيادة الاستعراضية المتهورة التي يمارسها بعض الشباب، خصوصًا من أبناء العائلات النافذة،
وذلك لما تمثّله من تهديد مباشر لحياة الناس والسلم العام.
ويُقترح:
أ- السجن الفوري دون كفالة،
ب- السحب النهائي لرخصة القيادة،
ت- توتيد أمني (fichage des personnes à risque)
3- تشديد العقوبة على القيادة تحت تأثير الكحول أو المخدر،
بالسجن الفوري وسحب الرخصة لسنوات طويلة،
تماما كما تفعل الدول التي تحترم الإنسان.
4- تجريم التدخلات القبلية في مسار العدالة،
فمن يسعى لإغلاق ملف دموي باسم "الستر"،
يجب أن يُحاسب كمجرمٍ شريك في الجريمة.
5- إنشاء سجلٍّ وطنيٍّ للسائقين الخطرين،
يُحدّث تلقائيًّا مع كل مخالفة،
ويُستخدم لتقييدهم، وإجبارهم على إعادة التكوين،
أو منعهم من القيادة نهائيًّا.
6- فرض تكوينٍ نفسي وسلوكي دوري على السائقين،
خاصة سائقي النقل العمومي،
حتى لا تظل أرواح الناس ألعوبةً بيد من لا يقدّر المسؤولية.
7- إصلاح سوق التأمين،
بحيث لا يغطي حوادث التهور،
ولا يكون وسيلة للإفلات من المحاسبة.
8- اعتماد الذكاء الاصطناعي والكاميرات الذكية والخوارزميات في ضبط المخالفات،
لضمان الحياد التام، والحدّ من التلاعب البشري أو التعاطف مع المخالفين،
وتحويل الرصد والمساءلة إلى منظومة رقمية غير قابلة للمجاملة أو التغاضي.
وأخيرا… تفعيل دور الإعلام والمجتمع المدني،
لكسر حاجز الصمت،
ووقف حفلات "التغطية على القاتل"،
فلا وطن يُبنى بمداهنة المجرمين،
ولا أمان مع قانون يُخرق باسم العرف.
أيها الناس،
حماية الفرد القاتل خيانة للجماعة،
والصمت على هذا العبث خيانة للوطن.
فحين يُذبح القانون،
لا يبقى من الدولة إلا الاسم،
ولا من الإنسان إلا رقمه في سجل الضحايا القادمة.
فالسكوت خيانة،
والتضامن مع المجرم خنجرٌ في ظهر الدولة،
ولا نجاة لنا،
إلا إذا قررنا أن نقتل "الجريمة المحمية"،
قبل أن تقتلنا جميعا.
تحياتي
أحمد أمبارك