من ينتصر في الحرب التجارية ، أمريكا أم الصين ؟
لكل حدث حكاية وحرب الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين ليست مفاجأة كبيرة مزلزلة كما قد يتبادر لأذهان البعض وليست نزقا من خرجات اترامب البهلوانية المعتادة وإنما هي ثمرة تراكمات عالمية كثيرة تحبو منذ عقود طويلة ابتسم خلالها الحظ لدول وأمم وشعوب وعبس في وجه أمم وامبراطوريات ماكانت الشمس تغيب عنها من قبلُ و ، من رحم المعاناة والوجع والحروب ظهرت امبراطوريات جديدة كان لها دور كبير في رسم خارطة العلاقات الدولية لأمد طويل ومن هذه الإمبراطوريات الجديدة كانت أمريكا أهمها وأقواها فتصدرت المشهد العالمي لأمد طويل ومن بينها أيضا كانت الصين إمبراطورية قديمة تراجعت كثيرا ثم عادت لها الحياة بقوة من جديد...
تبدو الرسوم الجمركية في ظاهرها مسطرة عادية معروفة ، ليست من أحسن المساطر يقينا ولا من أكثرها استقامة بالنسبة للنظم الليبرالية، قد يُلجأ إليها في بعض الحالات لمعالجة بعض الإختلالات المالية والتجارية والإنتاجية ، لكن الحقيقة أن هذه الرسوم قد تخفي ما هو أخطر بكثير من مجرد إجراءات حمائية ولا يستبعد أن تكون آخر طلقة في صراع الكبار من أصحاب الثروة في العالم قبل الإعلان الرسمي عن بداية القرن الصيني....
في 14 أغشت عام 41 اجتمع روزفلت وتشيرشل وأعلنا عن "ميثاق الأطلسي", كان الرجلان يستقبان نتائج الحرب ويتهيآن لدور فاعل في رسم هندسة النظام التجاري والمالي لما بعد توقف الأعمال القتالية في أوروبا ؛ يدرك كلاهما أن بلديهما في منآى من الآثار الكارثية للحرب فابريطانيا يفصلها مانع مائي عن البر الأوروبي وأمريكا بلد قصي على الضفة الأخرى من بحر الظلمات......
استمرت الحرب على أشدها في أوروبا وكان الرجلان يتهيآن لما بعدها وكل المؤشرات القادمة من البر الأوروبي تشير أن الحرب حين تنتهي ستكون أوروبا كلها ، المنتصر فيها والمهزوم ، قد سويت بالأرض وستحتاج لكل شيئ ولن يكون بمقدور بلد غير أمريكا أن يعيد الحياة قريبا لدورة الإقتصاد العالمي....
انتهت الحرب العالمية الثانية بدمار البر الأوروبي بالكامل و لم يمسس اقتصاد أمريكا أي سوء ولم تدخل الحربَ إلا بعد مرور ثلاثة أعوام على توقيع الميثاق حين كان الجيش الأحمر قد أصبح على أبواب برلين ولم يمت من جيشها سوى ما يقارب 2% من مجموع قتلى الحرب في القارة العجوز ؛ كان نصيب الإتحاد السوفيتي 56% من قتلى الحرب وكان نصيب ألمانيا 36% ...
لكن انتصار روسيا العسكري كلٌَفها أن تنخرط في اقتصاد حرب لسنين طويلة فتعطٌَلت منشآته الإقتصادية ولم يكن بمقدورها أن تشارك في رسم ملامح النظام المالي والتجاري لما بعد الحرب وزاد من عزلتها عنه أن بها نظام حكم شيوعي تتعارض فلسفته كليا مع النظام الرأسمالي ، فكان ميثاق الأطلسي عام 41 السند الذي أسست عليه أمريكا ما سيعرف لاحقا بقواعد التبادل التجاري في النظام العالمي الجديد وقد ساعد في فرض هذه القواعد أن أمريكا وحدها في ذلك الوقت من يملك السلاح النووي في العالم وكانت أيضا قد جربت استخدامه فأخافت الجميع .....سيعلن عن اتفاقية التعرفة الجمركية والتجارة "القات" ست سنين بعد التوقيع على الميثاق فتبدأ رحلة السيطرة الأمريكية على اقتصاد العالم وتجارته وحركة الأموال فيه حتى أصبحت سيدته بلا منازع منذ سقوط جدار برلين ولعقود ثلاثة لاحقة....
طيلة العقود الثمانية الماضية ظلت أمريكا بفضل الدولار الدولة الوحيدة في العالم التي لا تخشى أدنى إكراه في تجارتها الخارجية فهي تسدد ديونها بعملتها والطلب على عملتها لا يتوقف لأنها سلعة يحتاجها من يبيع ويحتاجها من يشتري ومنذ أن أصبح عملة حصرية لأسواق النفط أصبحت حاجة الدول للدولار بقدر حاجتها للطاقة التي لا تصرف بغيره.....
وبعكس أمريكا تواجه بقية دول العالم جميعها إكراهات، تعظم تارة وتخف تارة ، في تجارتها الخارجية بسبب الدولار الذي هو ، قبل ان يكون وسيلة تبادل عالمية، بضاعة أمريكية يسري عليها ما يسري على كل ممتلكات أمريكا من واجب الحماية والتعامل به يخضع للقوانين الأمريكية ، فمن يدفع بالدولار يخضع لقانون أمريكا ومن يُدفع له بالدولار يخضع للقانون الأمريكي وتطاله المساطر الأمريكية في ما حَلٌَ وما عَقَد ومُعَرٌَض للعقوبات ومُعَرٌَض للإدانة من قبل المحاكم الأمريكية.....والحال هو نفسه بالنسبة للشبكات الرقمية (قوقل - أمازون- فيسبوك- آبل وميكروسفت) فهي أيضا سلع أمريكية وكل من يستخدمها تطاله القوانين الأمريكية. ...
فما الذي تغير في العالم وما الذي حصل للدولار ؟
اليوم لم يعد العالم هو العالم فلم تعد أمريكا وحدها من يملك سلاحا نوويا يردع به ويخيف كما كانت عليه عام 45 بل إن روسيا تملك أقوى ترسانة نووية وتملك الصين سلاحا نوويا وتملكه كوريا الشمالية وفرنسا وبريطانيا والهند وباكستان والكيان الصهيوني وكثير من الدول تملك التقنية الكافية والخبرات الضرورية لإنتاجه....
أما من حيث المساهمة في خلق الثروة العالمية فخلال السنة الماضية أنتجت الصين أضخم ناتج محلي خام في العالم بلغ 30106 مليار دولار بحساب "تعادل القوى الشرائية" وكان نصيب أمريكا ما يقارب 26000 مليار دولار بنفس الحساب والهند 14600 مليار وروسيا 5400 وإندونيسيا 4700 والبرازيل 4100 مليار دولار.
تتراجع ألمانيا واليابان وتتراجع أمريكا وتتقدم دول "البريكس" من حيث انتاج الثروة العالمية فتتحرر شيئا فشيئا من الدولار كعملة احتياطيات صرف ثم بدأت تتوسع مع الغير في التسديد بعملات محلية فتراجع الطلب عليه ومع هذا التراجع تتراجع القدرة الأمريكية على الإستدانة وتتراجع قدرتها على تسديد الديون.....
وصول اترامب للسلطة تحوٌُلُُ كبير في المزاج الأمريكي فقد مَلَّ الأمريكيون هدرَ أموالهم تلقاء ولاء أوروبا الغربية وقد ملٌُوا أيضا أن يظل العجز بميزانهم التجاري قائما مع هذه الدول بسبب عدم تناسب الرسوم الجمركية على ضفتي الأطلسي وقد زاد من مللهم وخيبة أملهم وخوفهم على الصناعات الأمريكية ، انخراطهم في حرب أوكرانيا وما نتج عنه من هدر عبثي للمال وما أسفر عنه من اصطفاف الجنوب الكلي ضدهم وتوسع منظماته الإقليمية والعالمية.....
فكٌَر اترامب وطاقمه الجمهوري وتدبروا أمرهم حتى قبل فوزه بمأموريته الحالية وكان عليهم أن يختاروا بين أن تستمر الإمبراطورية رغم التكاليف الباهظة أو أن تنكفئ الولايات المتحدة على نفسها فوقع الإختيار على الخيار الأخير فالوطن هو القرص الصلب حين تنهار الإمبراطوريات......كان الحال ذاته حين انهارت الإمبراطورية البريطانية فبقي قرصها الصلب "انكلترا " وحين انهارت الإمبراطورية السوفيتية بقيت روسيا وطنا للأمة الروسية لم تمسسها فُرْقة أما الإتحاد الأوروبي فليس له من صفة الإمبراطورية سوى أن لا حدود ثابتة له يتمدد مع كل عضوية جديدة ويتقلص مع كل مغادر، وسينهار أكثر مما يتصور أكثر المتفائلين تفاؤلا لتعود كل دولة لسابق عهدها دولة وطنية كاملة السيادة....لا سلطة لبروكسل عليها.
الإنكفاء الأمريكي فيه ترشيد للنفقات وفيه توفير للموارد وإعادة توجيهها نحو إعادة توطين الصناعات لكن توطين الصناعات ليس عملية أسبوع ولا شهر بل يحتاج لوقت طويل ويحتاج أيضا لبيئة ليست بها تحديات منفرة ولا أخرى معيقة وهو ما لا يبدو أنه متوفر لأمريكا اليوم فالتحديات جمة والصين خصم عنيد والإنتصار عليها عام 25 يشبه إلى حد كبير تفكيك سورها العظيم وكسر حصونها في الأيام الخوالي !!!!!
تعتبر الصين التحدي الإقتصادي الأكبر الذي تواجهه أمريكا ليس لما تمتلكه الصين من أسباب القوة الذاتية والقدرة على الصمود في المواجهة وإنما أيضا بسبب ما بحوزتها من أوراق قد تتسبب بكارثة فعلية على الإقتصاد الأمريكي .
إن زيادة الرسوم الجمركية على الواردات إجراء حمائي يراد منه تحصين المنتوجات المحلية المماثلة ويراد منه أيضا معالجة اختلالات الميزان التجاري ويراد له أن ينعش مداخيل الخزينة ومن وراء القصد أيضا إعادة توطين الصناعات داخل أمريكا حين تضاف له إعفاءات ضريبية على المنتجات المصنعة محليا.........
لا يغفل الرئيس الأمريكي في مثل خطواته هذه عن شركة الرقائق التايوانية علٌَ الإغراء بالإعفاء من الضرائب على منتجاتها في أمريكا والترهيب بزيادة الرسوم الجمركية على الواردات منها يدفعان ملاكها لتوطين وحدات إنتاجية داخل أمريكا فيضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة يضمن تموينا مستديما لصناعاته الألكترونية ومن جهة أخرى يُبعد احتمال مواجهة عسكرية مع الصين من أجل تايوان ، فتايوان بلا رقائق لا تعني شيئا يذكر لأمريكا .....فهل ينج وطاقمه في استعادة عظمة أمريكا المالية والإقتصادية !!!!
زيادة الرسوم الجمركية تعني نظريا زيادة مداخيل الخزينة وهذا قد يساعد في معالجة المديونية وفي تقوية الدولار وقد ترافقت هذه الزيادات مع إجراءات تنظيف داخلي تستهدف إلغاء النفقات غير الضرورية ومحاربة الغش في صرف الكثير من الإعانات الحكومية.
النموذج الأمريكي مبني على الإستهلاك فكثير الشركات الأمريكية استدرجها الطٌُعْمُ الصيني حيث اليد العاملة متوفرة بكثرة ماهرة ورخيصة وحيث السوق الداخلية ضخمة ونشطة تسندها طبقة متوسطة بحجم سكان غرب أوروبا وحيث الموقع الجغرافي المتميز يتوسط أكثر الإقتصادات الآسيوية حيوية وأكبر البلدان كثافة بشرية......مما استهوى المستثمرين الأمريكيين بحثا عن ربحية مضمونة وموفورة للأسهم وحين ارتحلوا خَلَت أمريكا من مصانعها حتى أصبحت الأسواق الداخلية خاوية من المنتجات المحلية وحين تفوقت الصين سنين طويلة على أمريكا في مجالات علمية وإبداعية كثيرة دوت صفارات الإنذار أن أعيدوا توطين الصناعات داخل أمريكا فهل تكون الصرخة قد فات أوانها وما الذي تستطيعه الصين لإفشال خطط أمريكا والفوز عليها ؟ أكبر مدين في العالم هو أمريكا وأكبر دائن لها هو الصين بما يقارب الألف مليار دولار من أذون الخزينة الأمريكية، ثم إن النموذج الاقتصادي الصيني نموذج انتاجي والسلطة السياسية مستقرة ولا يخشى المستثمرون من تقلباتها وتملك الصين احتياطات صرف هائلة تقدر بثلاثة آلاف مليار دولار وعلاقات تجارية حميدة غير مُسَيٌَسة مع كل دول العالم والصين قارة من حيث جغرافيتها وعدد سكانها وهي أيضا مأمونة الجانب فلم تغزو بلدا منذ قرون طويلة وهي قاطرة لبريكس وزعيمة الجنوب الكُلِّي.....
احتياطات الصرف لدى الصين تمكنها من تنشيط الطلب الداخلي بسهولة وتمكنها أيضا من الإقراض السهل لدول الجنوب التي تحتاج الطرق والجسور والموانئ والمطارات والجامعات والسدود وغيرها من البنى التحتية فتصبح هذه الدول فضاء صينيا بامتياز تصرف فيه بضائعها وخدماتها وتكسب منه أكثر مما تكسب من أسواق أمريكا الموصدة بالرسوم العالية في وجهها......قد تستغني الصين عن السوق الأمريكي بالبدائل الكثيرة المتاحة لها ولا يتراءى بديل لأمريكا عن مصانع الصين....
ثم إن السياسة الحمائية الأمريكية ستعني احتمال زيادة التضخم والركود الإقتصادي مما قد يؤدي لتجفيف موارد الخزينة فتضطر أمريكا للإستدانة من جديد من خلال عرض مزيد من الأذونات للبيع لكن في مقابل هذه الخطوة قد تقدم الصين على عرض الأذونات الأمريكية التي بحوزتها للبيع بسعر أقل بكثير من الفائدة التي ستغري بها الحكومة الفيدرالية المستثمرين فيندفع هؤلاء نحو المعروض الصيني الرخيص بدل الأذونات الأمريكية الجديدة خاصة أنها لم تعد كما كانت من حيث الوثوقية والأمان ، وإن استمرت أمريكا في زيادة الفائدة تكون عرضت البلاد كلها لكساد مخيف وإن لم تفعل فستعود لنقطة البداية ويزداد العجز وتهوى كل مؤشرات الأمان مما قد يعرض الحزب الجمهوري لمخاطر الفشل في التجديد النصفي خلال سنتين فتتبخر أحلام ترامب وطاقمه في بناء أمريكا مختلفة و"دائما عظيمة" !!!!
في المقابل لا شك أن الحرب حين تنتقل لموضوع الأذونات ستتراجع قيمتها السوقية وهذا يعني خسارة كبيرة للصين لكن الرهانات في الحروب ليست في حساب الخسائر وإنما في كسب النتائج فلا حرب من دون أضرار....
مما يميز الصين عن غيرها أنها تكاد تتملك كل سلاسل القيمة ، مدخلاتها ومخرجاتها ، ولها مصادر طاقة مأمونة لا تحتاج فيها لدولار واحد وتتبادل بالعملات المحلية مع فضاء واسع يشمل دول لبريكس التي تمثل 35 % من الناتج العالمي الخام وتمتلك علاقات تجارية واقتصادية كبيرة مع دول أوروبا الغربية التي هي الأخرى قد توصلت بإشعار الطلاق من أمريكا وبدأت تتلمس مخارج وبدائل، أصبحت حاجة العالم للدولار تتراجع شيئا فشيئا وستصبح كتلته خارج أمريكا أقل بكثير من كتلته داخلها فيفقد عالميته ويعود عملة وطنية لأمريكا تحميها وتنافس بها كما تحمي سائر الدول عملاتها وتذود عنها...
لهذه الأسباب وغيرها كثير لا يعقل أن تفوز أمريكا في حربها التجارية على الصين ولا يعقل أن تنهزم الصين في المواجهة ومن الراجح أن تكون هذه الرسوم عنوانا لنهاية الإمبراطورية الأمريكية في المدى المنظور وميلاد دولة وطنية أمريكية عظيمة في قرن تتصدر الصين قاطرته الإقتصادية وتتعدد فيه مراكز القوة والنفوذ.....
Galaxy