في ظلال الحروف /المختار السالم

بواسطة yahya

في ظلال الحروف
المختار السالم

بشكل يوميّ نقرأ ونسمع ونتابع شكوى مثقفي الجنوب من هيمنة الثقافة الأمريكية على حياةِ العالم وعلى فلسفة الحياة فيهِ، ولا أعرف مدى صواب إضافة مثقفي أوروبا إلى "مثقفي الجنوب" في هذا الموضوع، على اعتبار أنّ وتيرة صوتهم في ذات الشكوى مرتفعة كثيرا، بقدر ما لا نقرأ عن أيّ حلّ عند هؤلاء لتدارك الغبن الثقافي المتهافت.
والطريف أنَّ رافعي عقيرتهم بالشّكوى هذه يدورون في دوامة ثابتة هي السخرية من أفلام الغربي الأمريكي، بل من الحظّ الذي مكن لذلك التنوع الثقافي والاجتماعي الهائل من تسجيل نفسهِ في ذروة التقدم والثراء.
حيثما أخذتَ مكانك من أي شبر من هذا العالم، ستجد أنّ الكوكا والجينز والروك اندرول والهوت دوغ، لها مكان متسع في الحيز من خلفك ومن ورائك، لماذا؟ لأنَّ مثقفي أمريكا استطاعوا أن يسوقوا كل شيء في بلادهم، ربما بوطنية فذّة، لكن بكل تأكيد بعبقرية تسويقية تستحق الإعجاب.
جعل مثقفو أمريكا بقدرتهم على نقل الثقل البصري والحمولة الإنسانية، كلّ تفصيل، في حياة مواطنيهم من معاش وكساء وأحلام، أصلاً ومرجعاً للآخر، فإذا عدّلت ساندرا بولوك تسريحة شعرها بميلٍ نحو اليسار كان ذلك إيذانا للتيارات البيئية باتخاذ تسونامي مرجعية في تسريحات صبايا الريفِ في أبعد الأدغال، وإذا غيّر جون ماير من مستوى نغمة في وتره، أصبحت ضمن المقدّسات الموسيقية.
إنّ الفراغ في النّصف الفارغ من أيّ كأس أجمل من الامتلاء في نصفها الآخر، لا نقول ذلك من باب تسويق سورياليّ لأيّ بعدٍ مجازي في مفهوم الفنّ.
نحن في الجنٌوبِ تعاملنا مع البيئة الثقافية المحليةِ تعاملنا مع مطربة الحيّ، وهذا ما جنى على الحمولة الثقافية لموروثنا الإبداعي المادّي وغير المادّي.
وحين القراءة لمثقف جنوبيٍّ تجد حشدًا من الرموز والدلالاتِ المستجلبةِ، وبدرجة لا تقف عند تمجيد ثقافة الآخر، لأنّ تمجيد ثقافتهِ أمر مطلوب، بل تسعى لجعلها مرجعيةً وأصلاً ومنطلقاً، وهذا ما يفيضُ بكأس الحيرة كليّا، وهذا، أيضًا، ما جعل الثقافة الجنوبية غائبة عن مستوى الاحتضان المطلوب إقليميا ودوليّا سواء كانت آلة معاش أو إبداعا فنيا أو فكريا.
كمغاربيين احتجنا إلى أطنان من الدراسات والتقارير ليَمُنّ العالم علينا بإضافة "الكسكس" إلى قائمة التراث العالميّ، بينما كان المجهود الذي سوّق لوجبات أخرى مختلفاً لأنّه تمّ التعامل معها باعتبارها ثقافة لا مُجرّد لقمة عيش.
محليًّا، من الذي تعامل مع "الحلبة الزرقاء" و"لبن الحجرة" و"عيش آز" و"البربلي" و"الأطاجين" و"الكسرة" و"النشاء" و"عيش بلاّخ" و"الفشاي" تعاملاً غير لعابيٍّ لتصبحَ أيقونات لثقافة المعاش بحمولتها الاجتماعية ذوقاً وتقاليدَ، فتنتقل من وسيلة لكسر الجوع إلى إثراء معرفي وإنسَاني، وإلى نسق فريد لحياة أقوام هذا البرّ السّاحليِّ الذي تحتفل الغيلان بكلّ ثانية تنجو فيها من زحفِ الرّمال على روحِهِا، بينما طوّعناه نحنُ بمدارس على ظهور العيسِ، وبابتداع ما نأكل ونلبس ونسكن، وفيهِ أنشدنا لميّاتنا قبل أن يقال لنا عليكم بتشقير نسائكم وقوافيكم ومطعمكم ومشربكم وآلاتكم.. ترى ماذا لدينا لنواجه ذخيرة التشقير؟!