هل نحتاج في موريتانيا لانقلاب ذاتي يقوده الرئيس ولد الغزواني
بقلم : عبد الله ولدبونا /خبير استراتيحي
7دجمبر 2025
الانقلاب كأداة وكمفهوم للتغيير
جبل الإنسان على الخوف من التغيير ، لأنه ببساطة لا يضمن كيف سيكون وضعه بعد حدوثه.
وكذلك صانعوا القرار، والأنظمة التي يعتمدون عليها في إدارة شؤون البلد
لكن التغيير صيرورة حتمية لكل شيء.
فالكون كله متغير رغم ثبات نواميسه الحاكمة لاستدامته إلى حين.
والانقلاب في مفهومن العام ، هو نوع من التغيير الحتمي ، بل هو من أدوات التوازن ، إما بوسائل خاضعة لعقد جامع كالدساتير والقوانين الحاكمة لتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع ، وهي قد تحدث انقلابا في الموازين التي كانت حاكمة بفوز برنامج على آخر ، قد يختلف معه كليا أو جزئيا.
أو يكون الانقلاب اجرائيا بوسائل عنيفة أو ناعمة أو هجينة من أصناف أخرى ولأهداف مختلفة .
وإذا كان العلم الحديث يعترف بالانقلاب كعامل حاضر في قوانينه النظرية والتنظيمية ، فهو كذلك حاضر كقانون ثابت في العلوم السياسية .
فالحركة في هذا الفضاء الكوني الفسيح محكومة بقوانين وقوى ، ينتج عنها تماسك أو اضمحلال عمران فضائي ضخم، وميلاد عمران كوني من تركيب آخر.
وقد ينتج من تفكك نجم هائل أو بعض مكونات عناقيد المجرات سديم غازي طاقوي ، يصبح بدوره حاضنا مهما لتكشل أجرام أخرى ، أكبر أو أصغر ، تحكمها قوى جاذيبة ومجالات مغناطيسية ، تتشكل من العمران الفضائي الجديد.
تماما كنشوء الدول وتوسعها واستدامتها برهة من الزمن ، ثم تقلصها كما تتقلص النجوم ثم تفككها ، وإعادة قولبتها من بقايها كما يفعل السديم الكوني.
وبين الانقلاب بتعريفه العلمي المادي ، والانقلاب بمفهومه السياسي مشترك أصيل في الأسباب والنتائج.
الانقلابات في الموسوعة العلمية المعرفية
توجد في العلوم حوالي 34 نوعًا من الانقلابات ، موزعة تقريبًا كالآتي
في الفيزياء نحو 15 نوعًا (كمّ، بصريات، مغناطيسية، إشارات.
وفي الكيمياء نحو 4 أنواع (انقلاب فراغي، إلكتروني، توازن
وفي الطبيعة والبيئة نحو 6 أنواع، في الفلك، والرياح، والمحيطات، والغلاف الجوي.
وفي الرياضيات نحو 6 أنواع ، الانعكاس الهندسي، والمصفوفات، مقلوب العدد.
وفي علوم أخرى نحو 3 أنواع ، انقلاب البتّ، والانعكاس المنطقي.
ومن بين هذه الأنواع تُعد أهم ثمانية انقلابات في الاستخدام العلمي والدراسات الأساسية هي
الانقلاب الطاقي وهو أساس عمل الليزر.
والانقلاب المغناطيسي عكس اتجاه المجال أو أقطاب الأرض.
والانقلاب الحراري أي انقلاب ترتيب الحرارة في الغلاف الجوي.
والانقلاب الفلكي ؛ أطول نهار وأطول ليل.
وانقلاب التناظر الفراغي أي انعكاس الإحداثيات في فيزياء الجسيمات.
و انقلاب الاستقطاب أي عكس اتجاه استقطاب الضوء.
وانقلاب الدوران أي تغيير اتجاه دوران الإلكترون أو النواة.
والانقلاب الهندسي أي تحويل محوري/دائري مهم في الرياضيات والبصريات.
وفي الفيزياء النظرية حسابات فوق المقايسس المعروفة ، تحدث انقلابا أكبر ، قد تكون نتيجته تهاوي كل القوانين الحاكمة للكون كليا أو جزئيا ، مما سيؤدي حتما لانهيار شامل .
وهذا ماقد يحدث للدول وللأنظمة وللمجتمعات ، إن لم تبادر لحماية وقائية لكيانها من الاندثار.
وهذا يدخل في نطاق قدرتها على تفادي لحظة الحقيقة.
فهناك ثمانية أنواع من الانقلابات السياسية التي تؤثر وتتحكم في مسار الدول والأنظمة ، على مقياس علمي ثابت
هي
1. الانقلاب العسكري
وهو الانقلاب الذي تقوم به القوات المسلحة للإطاحة بالحكومة القائمة، عادة بحجة حماية الأمن أو الاستقرار، أو بحجج أخرى كالتخلص من دكتاتور أو نظام فاسد.
ويتم تنفيذه باستخدام القوة المسلحة للاستيلاء على السلطة بسرعة.
وتتفاوت حظوظ نجاحه حسب مستوى الضباط الذين خططوا لتنفيذه.
فإذا كانوا من صف القيادة والتحكم الأول ، كان احتمال نجاحه أكبر دون حاجة للقوة الحاسمة وإراقة الدماء.
كانقلاب 10يوليو 1978 في موريتانيا
وإذا كانت قيادته من مستويات دون ذلك أو من قوة مسلحة من خارج الجيش ، فإن ذلك يعني مواجهة مقاومة عسكرية وحدوث خسائر بشرية وضعف احتمال النجاح .
كما حدث بموريتانيا في انقلاب 16مارس 1981 وانقلاب 2003 الفاشلين
2. الانقلاب المدني
وهو انقلاب يقوم به سياسيون أو شخصيات مدنية دون تدخل الجيش المباشر.
لكن بدعم منه، أو من بعض قياداته المتحكمة فيه
وتتولى تنفيذه جوهريا أحزاب سياسية أو كتل مدنية من الدولة العميقة ، بدعم اسستخباراتي ، أو تمهد له باستخدام الضغوط السياسية، ذات البعد الشعبوي المعبأ أو بتحالفات داخلية للإطاحة بالحكومة وبالرئيس معا
كانقلاب 2008 في موريتانيا على الرئيس المدني المنتخب
3. الانقلاب البيروقراطي
وهو انقلاب ينجزه الجيش و الموظفون الإداريون وكبار المسؤولين في الجهاز الإداري للدولة للسيطرة على الحكومة والرئاسة .
إما عبر الجيش أو عبر
البيروقراطية العليا، من كبار الموظفين الإداريين.
لالسيطرة على مؤسسات الدولة الحيوية مثل الوزارات والمرافق دون تدخل الجيش أو الشعب.
ونسخة 2005 من انقلابات موريتانيا بها نسبة كبيرة منه.
وقد يحدث أثناء غياب الرئيس خارج البلاد أو أثناء تواجده بمكتبه الرئاسي ، ليتم دفعه للهرب.
وقد تصاحب هذا النوع من الانقلابات موجات قلاقل وعنف ونهب وتهريب للأموال ووضع لليد على ثروات مفسدين، بطرق غير قانونية تستغل الفراغ الأمني والسياسي المؤقت
4. انقلاب القصر
وهو انقلاب يحدث داخل النخبة الحاكمة، وغالبًا بين أفراد الأسرة المالكة أو كبار المسؤولين المقربين من السلطة.
ومحركاته تكون غالبا من داخل ظلال نفوذ الرئيس وقيادات الجيش الكبرى أو بدافع وتوجيه أجنبي .
ووسائل تنفيذه تكون أكثر نجاعة إذا تضمنت قيادة الحرس الرئاسي.
وهذا قد حدث كذلك ضمن انقلاب 2008 بموريتانيا
وعادة تتورط فيه أطراف من الأسرة أو كبار المسؤولين، بتحريض أو تمويه تكتيكي
وقد تدخل في التمهيد له تغييرات سريعة ، سرية أو علنية في المناصب العليا للأمن ، أو تغيير مؤقت غير معلن في مهمات الطاقم الأمني الأقرب للرئيس .
وقد حدث هذا بهدوء وبطء في مرحلة ما قبل انقلاب 2005 في موريتانيا.
فالتغييرات التي اعتبرها الرئيس الأسبق معاوية صمام أمان لكرسيه هي ما أطاح به لا حقا.
5. الانقلاب الذاتي بقيادة الرئيس
وقد يأتي بصورتين
الصورة الأولى انقلاب يقوده الرئيس نفسه ضد مؤسسات الدولة الدستورية القائمة، بهدف تعزيز سلطته أو تعزيز قبضته على السلطة كدكتاور .
ويضغط بإسناد من قوى الفساد العميق حوله لتعطيل البرلمان، وتعليق الدستور، أو حل القضاء.
بحجج شتى تتيح له تفعيل قانون الطوارئ أو اختلاق وضع استثنائي يبرر قرارات استثنائية.
ويشترك في هذا مع مبدإ وفكرة الانقلاب العسكري ، الذي يعطل الدستور والقانون بالقوة القهرية.
الصورة الثانية للانقلاب الذاتي ، هي أن يقود حملة كتابة دستور إصلاحي ، ينقلب عبره الرئيس على ذاته وعلى نظامه ، ليصصح مسار الدولة والنظام ، برؤية صادقة مع الذات ومع الشعب.
إصلاح ستنضم له فيه قوى وطنية كانت أبعد منه .
ويتخلص عبر هذا الانقلاب الذاتي من كل قوى الفساد والبروقراطية السياسية و إرث المحاصصات الانقلابية السابقة ، التي تجعل الدولة غنيمة لطبقات سياسية عسكرية ومدنية تنمو كالفطر في كل مرحلة "انتقالية" أو "انتخابية" سبقته.
وهذه الصورة الأخيرة من الانقلاب الذاتي هي ما يحتاجها الرئيس ولد الغزواني ، حتى يحقق رؤيته الوطنية الكبرى لموريتانيا.
وحتى يضمن تحولا آمنا أو خروجا آمنا من السلطة ، مع ضمان استمرارية مشروعه الوطني لموريانيا.
وقد ظهرت بوادر هذا الانقلاب الذاتي مبكرا ، لكنه لم يكتمل بعد
ويحتاج استكماله صرامة في القرار والتنفيذ.
لأن التخلص من حملة 60عاما من الفساد والمفسدين تحتاج جهدا أكبر وحافزا أوضح.
والحافز بارز
فهناك ثلاثية ظلت تنتظر كل رؤساء موريتانيا.
السجن ، أو المنفى الإجباري أو الاختياري ، والقبر .
6. الانقلاب الشعبي (الثورة)
ويتم بواسطة الجماهير الشعبية ضد الحكومة القائمة، وغالبًا يؤدي إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي.
والثورة الشعبية قد تندلع بالعصيان المدني، وأحيانًا العنف الشعبي غير القابل للتحكم.
وقد يطول أمدها أو يقصر ، حسب قدرة النظام على التحمل ، وحسب هشاشة البلد ، لكنها قد تتحول إلى ثورة مسلحة إذا سفك النظام دماء شعبه.
وقد تفتح ثغرة للتدخل الأجنبي وفقدان البلد لسيادته وسلمه المجتعي ، وقد يفضي ذلك إلى تقسيم البلد وانخراطه في حرب أهلية طويلة الأمد.
والأمثلة على ذلك معلومة ، قديما وحديثا.
7. الانقلاب المضاد أو الثورة المضادة
عبر انقلاب ضد انقلاب أو انقلاب ضد ثورة ، في شكل ثورة عليها ، تشترك فيهما قوى كانت تحمي مصالحا بالنفوذ الذي فقدته ، وربما دعمتها دول تسعى هي الأخرى لاستعادة نفوذها ومصالحها أو استغلال الوضع لبسط هيمنتها أو تأمين حصة مصالح استراتيجية لها.
وتكثر الأمثلة على هذا النوع في أوروبا الشرقية ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وكذلك حدث في دول عربية وإسلامية وإفريقية ،
ولا تينية .
8. الانقلاب الدستوري أو شبه الدستوري
و هو انقلاب يتم عبر وسائل قانونية أو شبه قانونية بدون استخدام القوة المسلحة.
وينفذه الرئيس و أحزاب سياسية موالية له أو عبر المجلس الدستوري والقضاء.
يتم عبره تخفيض أو تجميد سلطة البرلمان، وتعديل القوانين، أو استخدام القضاء لتغيير السلطة .
وحدث ذلك في حالات استخدام المحكمة العليا لتغيير الحكومة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
وفي دولة ديمقراطية هي كوريا الجنوبية .
ويحدث أحيانا بصور أخرى
وبما أن التجربة الموريتانية في الانقلابات ، وصلت حد التشبع ، ولم يعد هناك نمط ولا نوع من الانقلابات إلا جربته نخب موريتانيا العسكرية والمدنية ؛ إلا الانقلاب الذاتي بصورته الإيجابية ؛ فلا حل إلا هو.
وهو انقلاب يقوده الرئيس ولد الغزواني من موقع الشرعية ضد كل قوى الشر التي تكبل موريتانيا بشبكات نفوذ الفساد الشامل، بل وتطوقه هو من كل حدب وصوب .
خاصة في مأموريته الثانية ، فهي متحفزة مستنفرة كالعادة بسبب قرب الآجال الدستورية الحاسمة ، وبسبب تأخر الإصلاح الحزبي الشامل ، خاصة الحزب الحاكم !
لاحل إلا الانقلاب الذاتي المحبوك حبكة استراتبجية نوعية ، لأن سلم الانقلابات يتجه بنا نحو نهايته ، التي تلقي عادة بالدول والأنظمة معا في دوامة الفشل وفقدان الاستقرار والسيادة والسلام والوطن ذاته.
إن الانقلاب كمفهوم وأداة للتغيير ، يعتبر مجالا بحثيا عميقا لدى العلماء والخبراء .
ويُعدّ كل من صمويل هنتنغتون وإدوارد لوتمان من أبرز المنظّرين لهذا الاتجاه.
ومع تعاظم دراسات التحول الديمقراطي ، بدأ مفهوم الانقلاب يُفهم في سياقات عديدة
وتشير البحوث الحديثة إلى أشكال من التحول الثوري الهادئ، تمتاز
بوعي أهمية المحافظة على استمرارية الدولة ،بتحديث ضبط القواعد الدستورية.
ولو تطلب ذلك إعادة كتابة الدستور لا الاقتصار على مواد محددة منه.
وإدماج قوى فاعلة جديدة في منظومة الحكم وخروج أخرى لم تعد تصلح للمرحلة ، لأن الدولة كيان استمراري يحتاج استيعاب كل أجياله في منظومة الحكم والإدارة .
ولابد من تقليص نفوذ شبكات السلطة التقليدية، التي صنعت حاجز حماية احتكاري للدولة .
وهذا ما يجعل هذه التحول المنشود ، أقرب إلى انقلاب ناعم داخل النظام لا عليه.
مصدات الإصلاح في السياقات السياسية العربية والأفريقية
في التجارب العربية والأفريقية، تتداخل ثلاثة عوامل تعزز الميل إلى التغيير الصادم:
هشاشة المؤسسات.
وضعف النخب المدنية
ومحدودية القنوات الدستورية للتداول وتوازن السلطات
ومع ذلك، تُظهر التجارب الحديثة أن التحول يمكن أن يحدث أيضاً عبر إعادة بناء تدريجية للنظام دون إسقاطه.
التجربة الموريتانية خلال العقود الماضية ، شهدت نمطاً من الحكم يتداخل فيه العسكري بالمدني، وتتشابك داخله شبكات النفوذ التقليدية.
ومع انتخاب الرئيس محمد ولد الغزواني، برزت مؤشرات سياسية تدل على تحوّل تدريجي في بنية السلطة.
ويمكن رصد ثلاثة محاور أساسية له
1 إعادة تعريف العلاقة بين النظام والنخب ، لتقليل أثر الاستقطاب السياسي السلبي تحت شعارات لا تناسب المرحلة .
ودمج طيف أوسع من الفاعلين
وفتح قنوات تشاور منتظمة.
ومسار إصلاح لمؤسسات الدولة،
تتضح فيه محاولات لإعادة هيكلة قطاعات أساسية مثل الإدارة العمومية والرقابة المالية، وترقية آليات الشفافية؛ وسياسة اللامركزية
وطرح أسئلة كبرى عن مسار دولتنا الوطنية.
وهذه الخطوات تتقاطع مع مفهوم إعادة بناء الدولة الوارد في أدبيات الإصلاح المؤسسي.
وهناك استراتيجية للتخفيف من الإرث السياسي والاقتصادي السلبي ، تتجلى في إعادة ترتيب أولويات التنمية.
ومراجعة العلاقات بين السلطة ومراكز النفوذ التقليدية.
وضبط المجال الاقتصادي وتقليص الامتيازات غير الرسمية.
ولابد أن يلاحظ كل مراقب جاد أن الرئيس ولد الغزواني يسعى جادا لتحقيق تحول نوعي في موريتانيا ، برؤية هادئة ، فهل سينجح ؟
التحديات كبيرة ، لكن تحويلها إلى فرص كبرى ممكن ، إذا واكب فريق الرئيس خطط التنفيذ كما يبغي.
أو قرر الرئيس تغيير الفريق ، وقد يفعل.
لأن الوقت السياسي لم يعد عداده يسمح بضياع الفرص التاريخية لموريتانيا وللنظام الحاكم نفسه وللشعب الموريتاني .




