من ودان الى. الاك

بواسطة yahya

من ودان إلى ألاك..

شالني(إمرزي) عن متابعة السهرة الافتتاحية لمهرجان ودان، فعندما رأيت البسط المبثوثة، والكراسي المصفوفة، والأضواء المتراقصة، ومرابض السيارات الفارهة، ووجوه المنعمين الناعمة، ودراريعهم الراقية، ورأيت تقدم أهل البجاحة، وتأخر أهل الفصاحة، وفضول أهل السياحة، ورأيت خدعة الألوان التي تخيل إلى الرائي أن القوم جلوس على غدير صاف تتسابق فيه الأسماك الصغيرة وتلهو، أو على صرح ممرد تحسبه (البلاقيس) لجة فتحسر عن سوقهن، لما رأيت كل هذا شردت إلى أحياء الصفيح، وليالي الصقيع في مدينتي، فرأيت الأعرشة الخشبية المغطاة ببقايا ثياب خلقة مجموعة من حميل السيول، وتراص الأسر فيها كأجزاء الحصائر البالية، يستدفئون ببعضهم، وأجساد الأطفال عاربة إلا من تبابين التقطوها خلسة من مكاب قمامة البلدية..
ولما بدأت أنامل الفنانين تلاعب الأوتار، وتداعب الطبول، وانطلقت الخامات الصوتية تتفنن ترقيقا، وغنة، وتغليظا، وهمسا، وتسميعا، وتدلت سلسلات الذهب إلى بطون المغنبات، وغطت الأساور سواعدهن، وغنت الأجساد مع الحناجر والأوتار، شردت على جواد أفكاري الجموح إلى عزف آخر في صباحيات مدينتي، تنبعث موسيقاه الحزينة، والجميلة، مضمخة بعطر الكرامة والكبرياء، جلبة الحمالين، وأصحاب العربات(الحمارية) وهم يجتمعون صباحا أمام المحلات التجارية ينتظرون وصول الشاحنات، تتصبب جباههم عرقا تحت الصقيع، يستدفئون بتحاك أيديهم المتشققة من آثار الكد والكدح، ثم يبدأ اللحن مرتعشا في نداء باعة الدورة الأولى على خبز الأفران التقليدية الساخن، يحملونه على رؤوسهم، يكورون عليها خرق القماش براذع تقبهم كدمات محامل الخشب المثبتة بالمسامير الصدئة، وينساب الصوت الشجي في لغط طوابير المساكين المصطفة سحرا أمام حاويات بيع السمك الرخيص، ترتعد أجسامهم من شدة القر، والجوع، واليأس، عجائز، وشابات يكدن يسقطن على مناخيرهن هزالا، لفظتهن المدارس لعجزهن عن المواصلة، ثم تتعالى الأحاديث المبحوحة لأفواج النساء ينظفن قارعات الطريق أمام المدارس لبيع مستحضراتهن من الأطعمة الخفيفة..
انقطعت إلى احتفالية الصباح الحزينة هذه في مدينتي وهي تخز خواصر المدن المتخمة، النائمة بعد ليالي القصف الفظيعة، فخرست كل الأوتار، وتعطلت كل المعازف، واختفت كل المظاهر الخداعة، وهل يُبقي واقع مدينتي في الأحاسيس مساحة لتسلية، وترفيه بمظاهر الغبن، والشطط، وسيارة واحدة من عابرات الصحراء، والجبال في احتفاليات المدن الأثرية تكفي لإعالة حي كامل من بائسي مدينتي شهورا..
عدت إلى ودان بعد أن استقرت رتابة اللحن في مدينتي، فرأيت فسيفساء المشهد من جديد، ذكرني البذخ الطاغي، ومستوى التحضير العالي، وكل التفاصيل التي تعذب دور وكنوز تلك المدينة الأثرية العريقة، النائمة بعيدا عن صخب ليالي المدن المشاغبة، رأيتها تختفي فجأة دون التفات كما يرحل الزائرون عن مقابر موتاهم، تاركين وراءهم بحارا من دماء الذبائح، وأكواما من العلب الفارغة، والأكياس، وبقايا الأطعمة، وأمة أخرى غير مصنفة من الفضلات تتراكم عند مداخل تلك المدينة الغائبة في صمتها الأبدي..
وكل يغني على ليلاه، يروى أن رجلا خرج مهاجرا للتجارة في السينغال، فطاب له المقام في مدينة(اللوكه)، ولما عاد إلى أهله، صار كلما أوشكت الشمس على الغروب، يتواجد، ويردد شوقا وحنينا حتى تدمع عيناه(يوكي زاد هاذ وقت اتراد ريحت آفار كسكس الكوريات في اللوكه)..
آه. تذكرت في قول أمير الشعراء إنه ما كان مداحا، قول العلامة ولد عدود لمعاوية:
معاوي إني لست بالمتزلف
ولست لقرض الشعر بالمتكلف

وتعليق القوم أنهم يشهدون على صدق ما جاء في عجز البيت،
ثم قول الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر لمعاوية أيضا:
وما كنت مداحا لقوم وإن علوا
ولكن خير الأرض للأرض يذكر..

ولعل في هذا كله عتابا داخليا، ومحاولة تكفير مسبقة، واعترافا لا شعوريا بأن في بعض المدح تنازلا عن كرامة..
كان المتنبي يحتاط في جل مدائحه، وينتقل فيها من الندية إلى التعالي، فيفتخر بنفسه، ويقتصد في ما يمنح ممدوحيه من خصال..
يا الله..
شردت وأنا أقرأ تعاويذ النوم، وظلال صور المهرجان تمر أمام عيني كشريط وثائقي جيد الإخراج، إلى ليالي أخرى بعيدة عن الصخب المحمول إلى تلك البقعة الهادئة، الهاربة عن آثام البشر، وأضوائهم المعتمة، شردت إلى تلك المنازل الرهيبة، حين يأتونها فرادى، لا تزلف فيها لقائد، ولا حراسة فيها لحاكم، ولا سلطة فيها لسلطان، تذكرت مصير ما أشاهد من أصحاب الأجساد النضرة، التي تغرق في زينة تريك نسخها المزيفة بدل الأصلية، وأمواج العطور الزكية تنبعث من كل زاوية، تخيلتهم في تجاويف ببوتهم الجديدة، وقد جردوا مما يحملون، ومما يملكون، وهم يخضعون لاستجواب لا تحفظ فيه الدعوى لنقص أدلة الإثبات، ولا تسجل فيه الجرائم ضد مجهول، ولا يعفى فيها من المساءلة لتدخل متنفذ أو وجيه..
وأنا أسمع السؤال الموحد: من أين لك هذا، وفيم أنفقته..تذكرت تلك السيارات الفارهة، والفلل الفاخرة، والقطعان السائبة، والأموال النائمة في حسابات لا تخشى فيها قيظا ولا قرا..هناك ترى الكل سواسية، لا ألقاب، ولا صفات..ترى المستجوِبين أمس يُستجوبون، وقواد أمس يقادون، وقضاة أمس يقاضون، وحكام أمس يحاكمون، ويسألون عن بغلة عثرت في(غابو) لماذا لم يمهدوا لها الطريق..

المرتضى محمدأشفاق

.