عشية الاحتفال بالذكرى الخامسة و الستين للاستقلال الوطني.
بقلم / محمد الكوري ولد العربي.
هل هناك علاقة بين الاستقلال السياسي و السيادة اللغوية؟
يعود ظهور فكرة الاستقلال السياسي إلى القرن التاسع عشر مع بروز الأفكار الداعية إلى تأسيس الدول القومية في القارة الأوروبية؛ و تنامت فكرة الاستقلال السياسي في الأدبيات العالمية مع انحسار الامبراطوريات ، خاصة عقب الحرب العالمية الثانية، و تراجع قوة تلك الامبراطوريات الاستعمارية ، خصوصا فرنسا و بريطانيا.
و هكذا تصاعدت الأفكار المنادية بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ؛ حيث و صل زخمها السياسي أوجه مع تفجر الحركات التحررية و المقاومات الشعبية للاستعمار في العالم، بالتحديد في آسيا و إفريقيا و شعوب أمريكا اللاتينية، حين انتشرت الأفكار التحررية و الدعايات المناهضة للاستعمار و المطالبة بالاستقلال السياسي للشعوب على نطاق واسع بفعل النشطاء السياسيين الثوريين و المثقفين المناهضين للاستعمار. و لما حصلت أكثر البلدان المستعمرة في العالم على " استقلالها السياسي"، في صورة جلاء عسكري للجيوش الاستعمارية من أوطانها، انتبه الوطنيون النابهون في هذه الشعوب إلى أن القوى الاستعمارية منحت " الاستقلال السياسي" على نحو شكلي و مغشوش عندما وهبت السلطة لنخب محلية مرتبطة بالمستعمر عن طريق الرابطة اللغوية ، خصوصا الاستعمار الفرنسي، الذي تميز، من بين القوى الاستعمارية، بالسيطرة على عقول الشعوب و الاستحواذ على ضميرها الجمعي عبر مسخها لغويا و ثقافيا و فكريا و تصورا و حضاريا... حتى تبقى نخبها أدوات وظيفية تابعة في كل شيء ،بما في ذلك مصالحها المادية و المعنوية، للدولة الفرنسية. فهل هناك، علميا و موضوعيا ، علاقة بين الاستعمار السياسي و الاستعمار اللغوي؟
آه.. بكل تأكيد.
إن ثمة علاقة وثيقة بين الاستقلال السياسي و الاستقلال اللغوي: فاللغة هي فعلا أداة للتواصل ، لكن دورها ليس منحصرا في بعد التواصل كما يرغب في ذلك المقللون من قيمة النضال الثقافي... فدور التواصل دور أولي للغة ، لكن لها دورا أشمل و أعمق من ذلك يتمثل في أنها أداة حصرية للتعبير عن الآراء السياسية و الأفكار العميقة و التنظيم و التوعية... و في تشكيل الوعي الجماعي للشعوب و تبلور هويتها الوطنية و القومية، و مستودع منجزاتها الحضارية و وعاء مآثرها التاريخية و قيمها و أنماط سلوكها و حاضنة ذاكرتها الجماعية للسرديات: من أساطير، و خرافات، و حكم و أمثال و مأثورات، و عقائد...
و عندما يحرم شعب من سيادته اللغوية، فإنه يحكم عليه بالعقم ، من خلال التضييق على قدراته في التعبير و خنق خطابه السياسي على مستوى شرائح واسعة من مواطنيه؛ كما أن في غياب الاستقلال اللغوي إجهاز على قدرات الشعوب في تشكيل تميزها الوطني و هوياتها القومية، فيصبح مواطنوها مجرد منتوجات رديئة و ملحقات مشوهة تابعة للغة الاستعمارية التي تكونوا بها و فيها على مستوى الوعي، و مستوى المحتوى.
و من هذا المنطلق، يتبين حجم الترابط بين الاستقلال السياسي ، بمعنى استحصال الحرية الوطنية، و بين انتزاع السيادة اللغوية، جنبا بجنب ، كون اللغة أداة التكوين للمواطنين الوطنيين المنفصلين عقليا و ذهنيا و ثقافيا و تصورا...عن كل الأنساق المرتبطة بلغة المستعمر. فالحرية السياسية ( الاستقلال السياسي) ليس له معنى في ظل التبعية اللغوية للمستعمر ؛ لأن اللغة تمثل في ذات الوقت البنية الفوقية و التحتية الضرورية، معنى و مبنى، للاستقلال السياسي، و الاستقلال السياسي الناجز حقا، من جانبه، يمنح التربة و المناخ الملائمين لتعزيز و تطوير عبقرية اللغة الوطنية في مواكبة مستجدات الفكر و السياسة و الاقتصاد التقانة...
و هنا، يمكن الحكم بأن استقلالنا السياسي، حقيقة، في موريتانيا- و في أكثر من بلد عربي مغاربي و إفريقي، برغم مرور أكثر من ستين سنة على جلاء جيوش المستعمرين، خصوصا المستعمر الفرنسي، عن أوطاننا- ما زال ناقصا و مغشوشا بسبب خوائه على مستوى قيم و أداء النخب المرتبطة بفرنسا لغويا ، خاصة عجزها عن صناعة قرار سياسي وطني و سياسة اقتصادية يقنعان الشعب الموريتاني بأنهما صادران من واقع الاستقلال الوطني الفعلي، و ليس من واقع التبعية المتنكرة، في قناع الاستقلال السياسي دون اللغوي، للقوى الاستعمارية...




