إجتثاث البعث
جريمــة سياسيــة فـــي حـق الدولـــــة والمجتمـــــع
ضيــــاء الصفـــار
منذ اليوم الأول للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، سعى الحاكم المدني بول بريمر إلى تفكيك بنية الدولة العراقية الوطنية عبر قرارات كارثية صدرت تباعًا، كان أخطرها القرار رقم (1) القاضي باجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي، والقرار رقم (2) الذي قضى بحل الجيش العراقي ومؤسساته كافة. هذان القراران شكّلا، في جوهرهما، عملية تجريف وطني شامل استهدفت ركائز الدولة ومقومات المجتمع، ومحاولة ممنهجة لاجتثاث الدولة العراقية بكل مؤسساتها الوطنية والعلمية والعسكرية وإلغاء هويتها العربية الجامعة وإفراغها من طاقاتها الوطنية المخلصة التي بنت مؤسسات الدولة الحديثة منذ تأسيسها، وبذلك فتحا الباب أمام مرحلة من الفوضى والاقتتال والفساد والانقسام.
لقد كان قرار اجتثاث البعث عملية سياسية انتقامية بامتياز، صُمّمت بعقلية الاحتلال وبإشراف مباشر من واشنطن، واستهدفت شريحة واسعة من أبناء العراق ممن خدموا في أجهزة الدولة أو انتموا للحزب لأيمانهم بسياسة الحزب وفلسفته في أدارة الدولة والمجتمع ، فبموجب هذا القرار حُرم مئات الآلاف من حقوقهم الوظيفية والمعيشية، وصودرت ممتلكاتهم، وأُقصيت كفاءات علمية وعسكرية وإدارية كانت تمثل العمود الفقري لبناء الدولة الحديثة.
لم يكن اجتثاث البعث استهدافًا لحزب سياسي فحسب، بل كان استهدافًا للعراق كله، لشعبه وتاريخه وحضارته، ولمشروعه الوطني القومي الذي مثّله حزب البعث العربي الاشتراكي عقيدةً وفكرًا ونهجًا.
لقد أراد المحتل من هذا القرار إلغاء الذاكرة الوطنية العراقية، وتحطيم إرادة الأمة، وتحويل العراق إلى ساحة للفوضى والتبعية. وهكذا وجدنا أن قرارات بريمر فتحت الطريق أمام القوى الطائفية الموالية لإيران، لتملأ الفراغ السياسي وتفرض مشروعها التخريبي، مستندةً إلى مناخ الاجتثاث والإقصاء والكراهية.
لقد اعترف بول بريمر نفسه في كتابه «عام قضيته في العراق» بأن قرار اجتثاث البعث لم يُتخذ في بغداد، بل تم توقيعه في البيت الأبيض الأميركي ووزارة الخارجية الأميركية قبل وصوله إلى العراق. وهذا الإقرار الرسمي يُسقط كل الذرائع ويؤكد أن الإدارة الأميركية هي المسؤولة المباشرة قانونيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا عن هذه الجريمة السياسية الكبرى التي دمّرت الدولة العراقية، ومزّقت نسيجها الاجتماعي، وحرمت مئات الآلاف من العوائل من لقمة العيش والكرامة.
إنّ هذه الحقيقة تجعل من واجب الإدارة الأميركية، قبل غيرها، أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية في رفع هذا القانون الجائر وإلغاء كل تبعاته، لأنه لم يكن قرارًا عراقياً، بل فرضًا استعمارياً جرى توظيفه لاحقًا لخدمة مشاريع الهيمنة الإيرانية على العراق.
إنّ ذيول وعملاء النظام الإيراني في العراق، الذين تشكّلوا في كنف الاحتلال وتحت راية الحرس الثوري، هم الذين عملوا منذ اليوم الأول على ترسيخ سياسة الاجتثاث ورفض أيّ خطوة لإلغائها أو مراجعتها، لأنهم يدركون أن نهايتهم السياسية مرهونة ببقاء هذا القرار الظالم.
إنّ إصرارهم على إبقاء الاجتثاث بعد مرور أكثر من عقدين على الاحتلال، رغم فشلهم الذريع في إدارة الدولة، يكشف عن تبعيتهم الكاملة للنظام الإيراني الذي يريد للعراق أن يبقى ضعيفًا، مفككًا، منزوع الإرادة، خاضعًا لنفوذه وهيمنته.
ولذلك، فإن المعركة ضد الاجتثاث لم تعد قضية حزب أو فئة، بل أصبحت قضية وطنية كبرى تتصل بسيادة العراق وكرامته واستقلاله.
لقد حوّل الاجتثاث مؤسسات الدولة إلى هياكل خاوية، وأقصى خيرة رجال العراق من الجيش والإدارة والتعليم والخدمة العامة. وساهم في صعود الميليشيات، وتفشي الفساد، وانهيار القيم الوطنية، وتفشي الفساد الحكومي وانتشار البطالة والفقر والتمييز الطائفي.
فمنذ عام 2003 وحتى اليوم، ما زال عشرات الآلاف من الكفاءات العراقية محرومين من حقوقهم، يعانون الجوع والحرمان، فيما يعبث بالبلاد فاسدون وموالون لأعدائها .
إنّ حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي واجه الاحتلال وأعوانه بصمود وشجاعة، يؤكد أن قرار اجتثاث البعث باطل من أساسه لأنه بُني على الحقد والانتقام، لا على العدالة والمصلحة الوطنية.
وسيظل البعث يقاوم هذه المؤامرة، دفاعًا عن كرامة العراق ووحدته، وإيمانًا بأن بناء الدولة لا يكون بالإقصاء والثأر، بل بالنضال والصبر والثبات على المبادئ التي تعيد الحقوق لأصحابها، وتُعيد الكفاءات الوطنية إلى مواقعها لتنهض بالعراق من جديد.
يا أبناء العراق الأبيّ، يا من واجهتم الظلم بصبر وثبات، إنّ مسؤوليتكم التاريخية اليوم هي في إسقاط كلّ مشاريع التبعية والاجتثاث والانقسام، وإعادة الاعتبار للدولة الوطنية العراقية.
إنّ البعث الذي حاولوا اجتثاثه، باقٍ في ضمير الأمة وفكرها، باقٍ في قيم الرجولة والكرامة والإباء، باقٍ ما بقي العراق عربيًّا حرًّا كريمًا.
إنّ البعث فكرة لا تُجتث، ورسالة لا تُمحى، وإرادة لا تُكسر.
وسيسقط الاجتثاث كما سقط الاحتلال، وستنهض أرض الرافدين من رمادها أقوى وأطهر.
المجد للعراق الواحد الحرّ،والنصر لشعبه الصابر، والخلود لشهدائه الأبرار.
2025 /تشرين الثاني /10




