#بلغيث في وجه العاصفة:
حين تُحاكم الذاكرة باسم الأيديولوجيا !
لم يكن تصريح المؤرخ الجزائري د. بلقاسم بلغيث زلة لسان، ولا “رأياً سياسياً” كما يحاول خصومه تصويره. بل كان موقفاً علمياً، صادراً عن رجل يقرأ التاريخ بوعي الأرشيف، لا بعاطفة الشعار.
قال بلغيث إن البربرية – كما تُستثمر اليوم – تحوّلت إلى أداة أيديولوجية تديرها فرنسا عن بُعد، لا لخدمة التنوع الثقافي، بل لإعادة إحياء سياسات التقسيم والفتنة التي سقطت عسكرياً لكنها لم تُدفن بعد فكرياً.
هذه المقولة، عوض أن تُناقش وتُفكّك بهدوء، وُوجهت بحملات هستيرية بلغت حد الدعوة إلى محاكمة الرجل ومحاصرته فكرياً، بل ووصمه بالإقصاء و”الكراهية”.
لكن الحقيقة أنّ بلغيث لم يُقصِ أحداً، بل نبّه إلى أن هناك من يُقصي الوطن باسم اللغة، ومن يستنجد بالمستعمر لفرض سردية مشكوك في براءتها.
لقد تعمّد البعض تشويه جوهر موقف بلغيث، بإسقاطه في صراع عبثي بين “العرب” و”الأمازيغ”، وهو صراع لا وجود له في ذاكرة الشعب، بل في أجندات نُخب صغيرة تسعى لتحويل المكون الثقافي إلى خندق أيديولوجي.
بلغيث لم يهاجم البربر ، بل حذّر من تحويل “ الأمازيغية ” – كمصطلح وظيفي – إلى أداة تفتيت، تماماً كما أرادت فرنسا ذات يوم.
ومن يعرف التاريخ، يدرك أن الاستعمار لم يخرج فعلاً، بل أعاد انتشاره عبر البعثات الثقافية والبرامج اللغوية والتأطير النعومي لمفاهيم “التنوع”، حين تُستثمر ضد الوطن لا لصالحه.
فمنذ عام 1930، حين صدر “الظهير البربري” في المغرب، خططت فرنسا لفصل البربر عن اللسان العربي والمرجعية الإسلامية، تمهيداً لخلق شعب “آخر” يُدار بقوانين مختلفة، ويُهيَّأ للانفصال الرمزي عن الأمة.
وفي الجزائر، مارست الإدارة الاستعمارية سياسة التمايز القانوني والثقافي بين القبائل وبقية مناطق البلاد، محاولة صناعة نخبة بربرية مفرنسة، تتمايز عن السياق الوطني الشامل.
وها نحن اليوم، نرى كيف تُعاد هذه المشاريع تحت مسميات “الهوية الأمازيغية”، بينما تتولى مؤسسات فرنكوفونية تمويل هذا التوجه، وتنظيره، وتصديره كحالة نضالية زائفة.
بلغيث – وهو أستاذ التاريخ – لم يخترع شيئاً، بل أضاء مصباح التحذير من إعادة تدوير الاستعمار في ثوب ثقافي، على حساب وحدة وطنية بناها الشهداء، لا اللغويون المتخاصمون.
وإننا نرفض، كمواطنين ومثقفين، أن يُزج باسم القضاء في معركة كهذه. فحرية البحث ليست ترفاً بل ضمانة للسيادة. ومحاكمة بلغيث لا تعني فقط استهدافه، بل هي محاولة لمحاكمة الذاكرة نفسها، والضغط على كل من يفكر خارج جوقة التقديس الأيديولوجي.
إن المشروع الوطني لا يُبنى على الإسكات، بل على نقاش هادئ، يُفرّق بين البربرية كحق ثقافي، وبين الأمازيغية كوظيفة استعمارية تُبعث من جديد.
والمثير للسخرية أن من يُهاجمون العروبة بدعوى “الهيمنة”، يكتبون بالفرنسية، ويتحالفون مع مراكز نفوذ غربية، وينشرون أفكارهم بأدوات من خارج الوطن، ثم يتحدثون باسم “التحرر” و”الأصالة”.
ما قاله بلغيث لا يُحرج الجزائر، بل يُحرج فرنسا.
لا يُهدّد الوحدة، بل يُنقذها من التلاعب.
ولا يستدعي السجن، بل يستدعي الإصغاء.
فليُترك قوله في رواقه الطبيعي: رواق التأريخ والتحليل، لا ردهات المحاكم ولا دهاليز التجييش.
ومن لم يَسْتَطِع الرد عليه علمياً، فليس له إلا أن يصمت، لا أن يُصادِر.
لأننا في زمن، لم يعد الصمت فيه شجاعة، بل خيانةٌ لدماء الذين ماتوا من أجل وطن موحَّد لا تُقسّمه الحروف.
احمد الشيخ امبكه