الوطن قد " يكزر "!!
دخل مفهوم " الكّزره" أول مرة في مجال التداول الشعبي ، إلى جانب مفهوم" التبتيب" في نهاية السنة 1987. أتذكر ، إذا لم تخني الذاكرة، أن أستاذنا للآنتروبولوجيا، محمد ولد البرناوي، شفاه الله و متعه بالصحة، كان يتناول هذين المفهومين المستحدثين للتو في قاموس مجتمعنا المتفلت... و تنبأ أنه سيكون لهما، التبتيب و الكزرة، "شأن عظيم" في حياة المجتمع و قلب منظومته القيمية القديمة و تأسيس قيم جديدة قائمة على النفع و مقبولية الوسيلة ، مهما كانت، من أجل النفع و الانتفاع. كانت هذه هي الفكرة العامة لذلك التنبؤ، الذي تحقق بأسرع ،ربما مما توقعه البرناوي، و تطور في نواحيه العملية و النظرية. ف"التبتيب" بدأ أول مرة في ممارسة بعض الموريتانيين لأنشطة تكاد تكون وهمية ،مدرة للدخل الخفيف مع عدم امكانية تصنيفها... حتى أضحى " التبتيب" ،في هذه الأيام، مجالا واسعا جدا يطال كل نشاط مادي: بدءا من حلوى الأطفال إلى بيع القصور و الفيلاهات و السيارات الشخصية و الشاحنات العملاقة... و القطع الأرضية ...
و قد يكون " التبتيب" في المجالات اللامادية ، القابلة للتخيل أو غير قابلة للتخيل، مثل بيع الأوهام و التربح بالوساوس و الأسحار و تبادل الهلوسات و " الرقيات الشرعية" و " الرقيات السوداء " .. و كل من أنشطة "التبتيب"و أنشطة الكزرة تخلق ثروات طائلة و ليس لها بالضرورة رأس مال و لا تخضع لأي نوع من التخطيط الاقتصادي و لا حاجة لأهلها بالمحاسبة، و لا بالمزيج التسويقي... و إنما يكفي وجود شخص مفتوح في الاحتيال و التضليل و الكذب و براعة التخفي و براعة الظهور في الوقت المناسب!
أما الكزرة فهي أخت من الرضاعة " للتبتيب" ، و قد باتت الروتين اليومي للمواطنين الموريتانين، فأصبحت كالموت لا ينجو من معاناتها صالح و لا طالح، و لا قوي و لا ضعيف... و من أذكى أساليب الكزرة الاستعطاف و الاستغفال، غير أن مجالها المفضل العقار و ما كان له صلة بالأرض.
قبل سنوات ، مع اكتمال السيطرة بالكزرة على منطقة عرفات و بوحديده، كنا نسمع أحاديث غريبة و ذكية عن بعض الأسر التي تحتال على قطع أرضية مكزرورة لأسر أخرى: لما استخوذ " الكزارون" الأولون على تلك المناطق، كانوا يبيعون بعض كزراتهم للتربح من الأسر التي جاءت متأخرة... فأدركت الأسر المغبونة في الكزرة ، بعد إلتقاط أنفاسها، أن هذه القطع الأرضية ليست مملوكة ملكية شرعية و أصحابها لا يتوفرون على ما يثبت ملكيتهم لها، فما ذا فعلوا: لقد لجأوا إلى إحدى حيلتين: الحيلة الأولى أن يشتروا قطعة من الفضاء المتصل المكزور على أجل محدد ( مثل شهر مثلا ) أو مرسل، للسداد ، و خلال هذا الأجل يسارعون في بناء كوخ أو بيت في هذه القطعة ... ثم يماطلون في التسديد حتى يضيق صدر البائع و يضطر للنزاع مع المشترين، الذين ينكرون البيعة أصلا، خاصة أنه لا يوجد ما يثبت البيع، لأن ملكية البائع غير معترف بها من الناحية القانونية، و سكان الكزرة لشدة تكدس بعضهم على بعض غالبا ما تنشب بينهم النزاعات و المناكفات و المشاجرات اليومية بسبب تداخل كزراتهم، مما يصب في غير صالح الكازرين البائعين، الذين يمتنع جيرانهم عن الشهادة على ملكيتهم للقطعة محل النزاع، نكاية بهم ، على خلفية صراعات الكزرة! و في هذه الحالات تتدخل السلطات بتسوية النزاع عن طريق تحريم أي تجديد أو إضافة للأبنية باللبنات في القطعة... فيبقى كل من البائع و المشتري في حالة تربص.. ربما امتد لعقود، في جو من الهجران و الصراع إلى أن جاء تخطيط القطع المكزورة ، و قد يرحل المالك ، الكازر الأصلي، بعد مخطط الدولة عن ربعه إلى ناحية بعيدة في ما أطلق عليه لاحقا أحياء الترحيل ، و قد يبقى المتحايل في مكانه، بحسب الحظ ، و قد يرحل الجميع( الكازر و المتحايل) إلى أبعد موقع من مكان نزاعهما ، و تصير تلك القطعتين في ملكية وافد من ناحية نائية أخرى ! أما أسلوب التحايل الآخر، فيتمثل في قدوم أسرة من المحيط الاجتماعي للأسرة الكازرة( من ذات القبيلة أو من حلفاء لها تاريخيا) و تطلب منها أن تعيرها مؤقتا ( فضاء ) من كزرتها لتستقر فيه ريثما تشتري قطعة أو تتدبر وضعها، فتستجيب الأسرة الكازرة لاعتبارات اجتماعية أو تاريخية ... فتمكث الأسرة الوافدة فيها ؛ و شيئا فشيئا تبني عريشا فيها ثم بيتا من اللبنات ثم مطبخا من أوراق القصدير ... و كل ذلك تحت وابل من استعطاف الأسرة الكازرة و سيل من الأدعية لها و الاعتراف لها بالجميل و الامتنان... ألى أن يكتمل، تحت أنظار الجيران و المارة، بناء ما يمكنها من ادعاء ملكية القطعة الأرضية ... فينشب الصراع و الشجار و السباب و اللكمات... فتتدخل السلطة ليستقر الوضع على ما هو عليه، بذات الحال الذي جرى في المثال الأول، كل في قطعته، و تتحول نعمة إيواء و استقبال الأخ الوافد المضطر إلى نقمة عدو لئيم منازع في الملكية ، ناكر للجميل !
هذا ما أحذر منه السلطات العليا للبلاد إزاء إيواء و استقبال الآلاف و قد يصلون للملايين من إخوتنا الفارين من الحروب الأهلية و الإبادة الجماعية في أكثر من دولة إفريقية خلف حدودنا الجنوبية ... فنتفاجأ ذات يوم أنهم تحولوا إلى مدعين لملكية الأرض و أصحابها التاريخيين، و لا يبقى أمامنا إلا عض أنامل الندم و الحسرة على مدى سذاجتنا و بدائية تفكيرنا ... و ينقلب ما قدمنا لهم من حسن الضيافة و كريم المواساة ... إلى وضعية نزاع على ملكية أرضنا في ظرفية اضطراب إقليمي و عالمي... لتتدخل الأمم المتحدة بحل المشكل بفرض الأمر الواقع، كما مر بنا في حل السلطات الموريتانية لنزاعات الكزرة!
و اللبيب...
محمد الكوري ولد العربي.
الوطن قد يكزر!!
