جمال طه يكتب

بواسطة yahya

جمال طه يكتب:
الشرق الأوسط واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي
المقال المنشور في عدد اليوم من جريدة المصري اليوم الغراء

ترامب أصدر في 5 ديسمبر 2025 وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» التي تعكس رؤيته السياسية والعسكرية للعالم، وأولويات الحكومة فترة رئاسته، الوثيقة جمعت «مبدأ مونرو» لعام 1823 الذي دعي إلى احترام نطاق النفوذ الأمريكي بنصف الكرة الغربي، وشعار «أمريكا أولاً» الذي رفعه الحزب الأمريكي الأصلي خمسينيات القرن التاسع عشر، ورفعه القادة الديمقراطيون والجمهوريون لتجنب التورط في الحرب العالمية الأولى، ثم استعارته حملات ترامب الانتخابية.

الاستراتيجية تمثل تراجعا عن أولوية المواجهة مع روسيا والصين والتدخل بدعوى محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط، واستبدالهما بالهيمنة على «كندا، المكسيك، أمريكا الوسطى والكاريبي، وأمريكا الجنوبية»، ومنع التدخلات الأجنبية، وتعزيز الاستثمارات الأمريكية لاستغلال الموارد الاستراتيجية والمعادن النادرة.

الاستراتيجية استهدفت تقويض تداعيات أزمة الديون في الولايات المتحدة «36 تريليون دولار»، الناتجة عن الحروب الخارجية منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، والتي قدرها تقرير «تكاليف الحروب» الصادر عن «معهد واطسون للدراسات الدولية» بجامعة «براون» بقرابة 4.4 تريليون دولار، وكذا السياسات الجمركية الخاطئة التي اتبعتها واشنطن وعرضتها لأضرار اقتصادية كبيرة.. واشنطن لن تنخرط في حرب خارجية إلا إذا تعرضت مصالحها الوطنية لتهديد مباشر.
***

الوثيقة تنبأت بأن تراجع أوروبا الاقتصادي سيؤدي لانهيارها الحضاري، مبررة التوافق الأمريكي مع أجندات أحزاب اليمين المتشدد ودعمهم، ودعت للتخلي عن طموحات الناتو في التوسع، وإنهاء حرب أوكرانيا ولو مقابل منح روسيا مزيدًا من الأراضي، برلين أكدت «أنها ليست بحاجة لمن يعطيها نصائح من الخارج».. هذا التخلي يفقد واشنطن ثقة حلفائها خاصة في آسيا «اليابان، كوريا الجنوبية، الفليبين، وتايوان»، مما قد يدفعهم لتطبيع علاقاتهم مع الصين بعد افتقاد ضمانات الدفاع الأمريكية.

ودعت الاستراتيجية لإعادة توازن العلاقات التجارية مع الصين، رغم اعتبارها المنافس الأكبر والتحدي الاقتصادي والاستراتيجي، مؤكدة أن التجارة معها ينبغي أن تركز على المجالات غير الحساسة أمنيًا «على نحو تصدير فول الصويا مقابل المعادن النادرة وأشباه الموصلات والمغناطيسات...»، وأشارت لرغبة واشنطن في منع نشوب صراع بالمحيطين الهندي والهادئ «ما يعني عدم خوض حرب من أجل تايوان».
***

التبدل المحوري للاستراتيجية الأمريكية يمس كل دول العالم، لكن أهم ما يعنينا انعكاساته على الشرق الأوسط، الذي أشارت الوثيقة الى أن اهتمام أمريكا به نبع من كونه المزود الأهم لمصادر النفط في العالم، والمركز الحاكم للممرات البحرية بين الشرق والغرب، لكن أولويته تراجعت في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أن أصبحت منتج للطاقة، وتحولت صراعات القوى العظمى الى تنافسات، والتوصل الى اتفاق شرم الشيخ للسلام في غزة، عقب انحسار الصراعات الإقليمية، وتقويض أذرع إيران العسكرية، وتعطيل قدراتها النووية، وفرص استقرار سوريا بدعم أمريكي خليجي إسرائيلي تركي.

الفكر الاستراتيجي لواشنطن منذ حكم أوباما، كان يدعو للانسحاب العسكري من الشرق الأوسط والتوجه الى الشرق الأقصى لحصار الصين، لكن التورط في حروب المنطقة سمح للصين بفرض نفسها على التوازن الدولي، ما دفع واشنطن للتراجع عن فكرة الهيمنة على العالم حيث لم تعد القطب الأوحد، لكنها ستحاول منع غيرها من محاولة القيام بذلك الدور «دون توضيح لآليات ذلك»، كما ستمنع سقوط إمدادات الطاقة بالخليج في أيدي أعدائها، وضمان بقاء مضيق هرمز والبحر الأحمر مفتوحين للملاحة الدولية، ومنع تحول المنطقة الى حاضنة للإرهاب، وأن تظل إسرائيل آمنة، وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، أمريكا ستواجه أي تهديدات دون التورط في حروب طويلة «ملمحة الى آلية حسم التهديد النووي الإيراني بضربة ماحقة أعقبتها إدارة دبلوماسية للأزمة».    

الشرق الأوسط ضمن هذه الرؤية يصبح وجهة للاستثمار الأمريكي، في مجالات الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع، مقابل تأمين سلاسل التوريد «الممر الاقتصادي من الهند لإسرائيل عبر دول المنطقة» وفتح أسواق جديدة باستثمارات مشتركة في إفريقيا، التي تتبنى واشنطن تجاهها مقاربة جديدة تبتعد عن «الفكر الليبرالي» والعلاقات القائمة على المساعدات، وتؤكد على تأمين المعادن الحيوية والنادرة.
***

رؤية ترامب للشرق الأوسط تعتمد على توازن تقوده إسرائيل، ويضم تركيا والسعودية ومصر والامارات، ويتطلع أن يجمعهم الاتفاق الابراهيمي رغم ادراكه باستحالة ذلك.. تراجع اهتمامه بالمنطقة فرض إعادة هندسة توازنات القوى ضمانا لإسرائيل، استكمالا لعملية بدأت منذ عام 2006 بسياسة «الفوضى الخلاقة» ومخططات تفتيت دول المنطقة، ثم إقرار مساعدات اقتصادية وعسكرية لإسرائيل قدرها موقع Visual Capital بأكثر من 310 مليار دولار منذ تأسيسها، وإصدار قانون مراقبة تصدير الأسلحة الذي عدله الكونجرس عام 2008 ليلزم البيت الأبيض بالحفاظ على تفوقها العسكري النوعي، وتقديم شهادة بقدرتها على التعامل مع التهديدات، فضلا عن الحماية الدبلوماسية من خلال 46 فيتو بمجلس الأمن لمنع إدانتها.. لكن أهم ما سيترتب على هذه الرؤية هو أن واشنطن لن تنزلق في حروب الشرق الأوسط، وهو ما قد تستغله إسرائيل لتأكيد طلبها الحصول على قنابل GBU-57 وطائرات B-2Spirit ضمانا لتفوقها الحاسم، مما يطيح بتوازنات القوى في المنطقة.
***

أزمة الديون الأمريكية أدت لتراجع اهتمامها بالشئون العالمية، وتجنب التدخلات الخارجية، والعودة للقومية الأمريكية، وإعطاء أولوية للسياسة الداخلية، وسياسة التجارة الحمائية.. العالم في ضوء هذه الاستراتيجية يختلف جذريا عما كان قبلها، أمريكا في ظل «مبدأ مونرو» أرسلت جيوشها إلى الدومينيكان عام 1905، ونيكاراغوا عام 1912 وهاييتي عام 1915، وترامب بدأ بالسعي للهيمنة على بترول فنزويلا للتحكم في السوق العالمي، لكن الأمور لن تتداعى بعدها كثيرا، لأن واشنطن ستنشغل بالتجديد النصفي للكونجرس 2026، ومقاومة تطلعات الفترة الرئاسية الثالثة، ثم شهور البطة العرجاء.    
@followers  Highlights
#مقالات_جمال_طه