كلمة حول الحوار السياسي.
بقلم / محمد الكوري ولد العربي، رئيس المنتدى السياسي للبعث.
تنقل الروايات ،في إمارة أحي من عثمان بآدرار، أن الأمير العادل أحمد للمحمد انزوى لأول مرة عن مستشار الإمارة، في شؤون التربية على الفروسية و قيم السلطة الأميرية، محمد للعبيد للتشاور مع مستشاره السياسي و العسكري أبراهيم ولد مكيه في شأن رأيه في من قام باغتيال إحدى الشخصيات الوازنة في منطقة إدرار. و لما حاول محمد للعبيد الانضمام للأمير و ولد مكّيه في نجواهما، و لم يكونا يحجبان عنه أمرا قبل ذلك، أشار إليه الأمير أن الأمر خاص به و بولد مكيه. فقال محمد للعبيد قولته الشهيرة " فاشتني بعد ءان جبديه مان فيها"!. و سارت هذه القولة مضرب مثل على فشل اللقاءات التي يستبعد منها صناع الرأي و أصحاب التأثير و العقلاء. و نُقل عن الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، الزعيم التاريخي للبعثيبن الموريتانيين، رحمه الله، قوله إن الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد للطايع، في حقبته الاستثنائية، كان يأتي به( ولد ابريد الليل) من معتقله ليستشيره في بعض النوازل السياسية ثم يعيده للسجن!
● يتواتر الحديث، منذ أيام، عن الحوار السياسي بلهفة مشهودة لدى " الأحزاب السياسية" و بتجاهل كامل من قبل الشعب المنهوك في البحث عن قوته يومه. و كما جرت عادة " حواراتنا السابقة" - منذ دخل هذا المفهوم في أدبياتنا السياسية ، في الأيام الأخيرة لنظام الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد للطايع ، عقب ما سمي وقتها بحوار " المنتدى"، الذي نظمه حزب التجمع من أجل الديموقراطية و الوحدة ، و كان يرأسه السياسي المخضرم أحمد ولد سيدي بابه ،لصالح إعادة تنشيط النظام آنذاك - لم تتفق يوما الأطراف المتحاورة على تسمية جامعة موحدة ، بل غالبا ما تختلف الأطراف على التسمية ، و يتمسك كل طرف بالتسمية التي تناسب هواجسه و ما يتوخى من تلك اللقاءات السياسية. ففي حوار " منتدى ولد سيدي بابه"، لم تستقر الأطراف على تسمية جامعة، فتارة سمي ذلك الكرنفال السياسي ب " التجمع " و مرة ب " لجنة المتابعة" و حينا ب " الإطار التشاوري". و لا يختلف الأمر اليوم عما حصل في سلسلة " الحوارات منذ 2005 إلى الآن. فالسلطة اليوم ترغب في تسمية " هذا النشاط المزمع تحضيره ب " التشاور الوطني" و " المعارضة" تريد تسميته ب" الحوار الوطني". و بالرغم من التباين بين مفهومي الحوار و التشاور في المغزى السياسي ، إلا أن ذلك لم يمنع " المتحاورين" من الإلتئام تحت يافطة واحدة مقروءة بعناوين مختلفة؛ إذ الجميع يريد الالتفاف على الجميع ، و الجميع يعي هذا الالتفاف، دون أن ينغص على الجميع. لكن الثابت في كل هذه "الديناميات " ، بصرف النظر عن تسمياتها و عما يكيده بعضهم لبعض فيها، هو أنها لم تشغل اهتمام الشعب الموريتاني و لم يعلق عليها أملا أو ينتظر منها علاجا لوجع، مع كثرتها و ضجيجها الإعلامي و الترويج المصاحب لها في كل مرحلة من مراحل افتتاحها. هنا، لا أعتقد أننا بحاجة للتأكيد على أهمية الحوار، من حيث المبدأ، بوصفه قيمة إنسانية سامية ، و كآلية راقية للتفاعل بين أصحاب الرأي لإدارة الأزمات أو للتفاهم على المصالح المشتركة أو لتسهيل و تمرير المواقف بين صناع القرار في بئات مختلفة. إنه برغم شوائب الحوارات السابقة و ما صاحبها من نزعة إقصائية للبعثيين، فإن ذلك لم يمنعهم من طرح رؤيتهم في الساحة السياسية في المواضيع كافة. و يمكن أن نذكر ببعض تلك المقترحات للتاريخ :
● مجال هوية الدولة الوطنية. و قد أكدوا في هذا الموضوع أن موريتانيا، كباقي دول العالم، متعددة الأعراق، غير أن أغلبية مواطنيها عرب، و هو ما يجعلها دولة عربية على مستوى هوية الدولة مع وجود هويات فرعية و خصوصيات ثقافية. و أكدوا على أن اللغات الوطنية للشعب الموريتاني هي اللغة العربية و البولارية و السونوكية و الولفية. و اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.
● و أكدوا على أن العدالة الاجتماعية و التوزيع العادل للثروة الوطنية و التكافؤ في الفرص حق للمواطنين و ليس امتيازا أو خيارا سياسيا.
● و أكدوا على ضرورة الإصلاح العقاري الذي يضمن حق ملكية الأرض حصرا للدولة و ينهي الملكية الإقطاعية لها، لما في هذا الإصلاح من إنصاف و صون لحقوق المزارعين، أفرادا، و تعاونيات.
● و في المحور السياسي، طالبوا بمراجعة قانون الأحزاب السياسية بما يجعلها أدوات تحديث سياسي و مجتمعي و تنموي ، و بما ينهي واقع التمييع و التتفيه الذي تعاني منه، و في ذات الوقت تجنب تعقيد تأسيسها بالإجراءات الإدارية الشكلية.
● و في مجال تنقية المجال السياسي، دعوا إلى الكف عن شراء الذمم في الانتخابات و إفساد الضمائر بالرشاوي الوظيفية، الذي تمارسه الإدارات الحكومية، و قضت به على النخبوية في الأحزاب المعارضة للأنظمة. كما دعوا إلى منع ضباط الجيس الوطني من ممارسة العمل السياسي؛ الأمر الذي أفسد السياسة و قوض مبدأ احترام الجيش من قبل الشعب.
● طالبوا في كل مناسبة و بلا مناسبة إلى إسناد المناصب الحساسة و الانتاجية و الخدمية ذات المردودية على الشعب إلى الأطر الأكفاء المشهود لهم بالاستقامة و الذين هم محل تقدير بالإجماع من قبل الشعب، و في ذات الوقت إيقاف منح هذه المواقع للأشخاص الموسومين في الرأي العام الوطني بالفساد و الرشوة و المحسوبية و القبلية. هذا فضلا عن مقترحات أخرى في مجال التعليم و الصحة و القضاء و النظام السياسي و الثقافة و العلاقات الخارجية...
● إن الحوار يطلب بناء الثقة بين قوى الرأي المختلفة و تصحيح الأخطاء المرتكبة و تقويم المسارات المعوجة ، و ليس الحوار وسيلة مثلى للخداع و تبادل المكائد. فللحوار دواعي و للحوار أهداف، فإذا انعدمت الدواعي و غابت أو غيبت الأهداف، يصبح الحوار لعبة عبثية، أو تمضية لأوقات الارتباك. إن الحوار الجدي و الجاد يتطلب تضافر أمور يمكن تلخيص بعضها في عبارة " بيئة الحوار"، التي يمكن تفصيل بعضها في المسائل التالية:
● نضج المؤسسات السياسية و الحزبية، التي توفر الغطاء السياسي و تضفي ثوب المصداقية على نتائج و مخرجات الحوار. و حين تصبح الأحزاب السياسية مجرد واجهات شكلية مرخصة بشرط إفراغها من مضمونها النضالي و تقييدها عن الحركة بالتعقيدات الإدارية، أو يتم اختزالها في شخصيات تاريخية منفصلة عن الفكر و الواقع ، أو في أشخاص يأتمرون بوزارة الداخلية، فإنها لا تمثل بديلا عن الفراغ السياسي الحاصل، مهما صبغتها به وزارة الداخلية من ألوان و مسحت عليها من دهان لمّاعة و زودتها به من مكبرات للصوت ! فالرسوم السياسية المتحركة، سرا أو علنا، بقوة وزارة الداخلية أو بقوة و معنويات السلطة، تدري أنها مفعول بها دائما و أبدا؛ و إذن لا تصلح أن تكون جزءا من بيئة سياسية سليمة للحوار بالمعنى الجدي لهذا المفهوم السياسي. فهم لا يحسنون إلا التحاور مع أنفسهم، أي مع السلطة، بعد تسلمهم من وزارة الداخلية ما عليهم قوله و ما عليهم تجنبه،... !
● كفاءة النخبة السياسية.
و هذا الشرط غائب منذ غابت الحرية في العمل السياسي في القانون الأخير المنظم للعمل الحزبي ، و أصبحت الأحزاب بموجبه تتأسس على قاعدة تجميع ميكانيكي لمجموعات من الأفراد على طريقة نظام " هياكل تهذيب الجماهير" في عهد الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله! و أصبح قادة الأحزاب يسلمون لائحة بأنشطة أحزابهم مع تسلمهم لاستمارة حسن السيرة و السلوك من وزير الداخلية أو عند حضورهم لولائم ساكن القصر الرئاسي، بمعنى أن قانون الأحزاب الجديد يشترط في الترخيص للعمل الحزبي الجمع بين عدم الكفاءة ، من جهة، في الأشخاص المزكين للحزب عشوائيا و على عجل، و الطاعة العمياء للقادة الحزبيين لسلطة وزارة الداخلية، من جهة أخرى، لأن أية تزكية لن تكون متاحة إلا بموافقة مصالح وزارة الداخلية و انسجام الحزب مع مخرجات لقاءات الرئاسة أو مع مزاج معالي وزير الداخلية؛ فمن لا ترضى عنه هذه السلطة سيستحيل عليه العثور على التزكية في ظل التقييد الإداري و الحجر السياسي بهذا القانون على المجتمع.
● وضوح الأهداف و ملامح التوافقات السياسية.
إن هذا الشرط لا يتأتى في بيئة سياسية و سلطوية يتحكم فيها طرف واحد في عملية الحوار : في عنوانه و أهدافه و سياقاته و مواقيت افتتاحه و إغلاقه، و في قبول من يحضر و من يقصى، فيما يقتصر دور الأطراف الأخرى على إثراء القوة الاقتراحية للسلطة بأفكارهم و مقترحاتهم دون نقاش.
● وجود مسافة فاصلة بين أطراف الحوار.
فواقع ساحتنا اليوم لا وجود فيه لهذه المسافة؛ إذ لا وجود لمعارضة و لا لموالاة في هذه الحقبة من تاريخنا السياسي ... فالكل تماهى و اختلط طعمه. فلا يمكن للمواطنين في هذه الأيام أن يميزوا بين خطاب ما يسمى " بأحزاب الأغلبية" و ما يسمى ب " أحزاب المعارضة" ، بالرغم من تدهور الوضعية العامة للبلاد على شتى الصعد : القيمية، و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية و الديبلوماسية. إن اختلاط الحابل بالنابل في مشهدنا السياسي لا يوفر الظروف الصحية المناسبة لصالح حوار يفضي إلى قرارات جوهرية تنقذ البلاد من واقع التردي بسبب غياب الفصل على مستوى الخطاب و الأهداف و النهج بين أطراف الحوار المزعوم. إن أي حوار يجري في سياق واقع مشهدنا لن يعطي النتيجة المرجوة من الحوارات، و إنما أقصى ما سيعطي تفاهمات على عقود صفقات غير سياسية و اقتسام المصالح الحزبية و الشخصية تحت عنوان الحوار. قد يقصي " هذا الحوار" أطرافا أخرى غير مرغوب فيها، دأبت الأنظمة على استبعادها كسلوك ثابت؛ لكنه لن يخرج السلطة و لا الأطراف المحاورة لها، موالاة و معارضة، من الأزمة السياسية و الأخلاقية و البنيوية التي تترنح البلاد في قاعها. ● إن الأطراف التي تهيمن على المشهد السياسي تتجاهل قضايا كبرى هي محل الخلاف العميق و بيت الداء الوطني المزمن:
● قضية هوية الدولة الوطنية التي تم القفز على تحديدها، بسذاجة، منذ مؤتمر ألاك 1958 و بقيت صداعا مزمنا و وجعا عابرا لكل الحكومات. و هذه المشكلة الشائكة لن تجد حلا بإقصاء القوميين العرب و النخبة الوطنية،من مكونة الزنوج، عن نقاشها، وجها لوجه، و دون أقنعة، في حوار وطني استثنائي و جدي لهذه الإشكالية،حصريا.
● الإرث الإنساني. و هذا الموضوع تخبطت في حله الأنظمة منذ معاوية إلى الآن؛ لكن هذا الملف ، في رأينا، لن يغلق ما لم يشترك في إغلاقه حزب اتحاد قوى التقدم، كأحد الموقعين على التسوية فيه. فهذا الحزب، بخلفيته الإديولوجية التاريخية كلها، يمثل الغطاء السياسي لاستمرار هذه الأزمة.
● قضية الفساد.
و هذه المعضلة يستحيل التخفيف من غلوائها في ظل مجتمع تلوث في أعماق قيمه، و باتت مكوناته، في ظل استقطاب حاد، فئوي و قبلي و إثني، تتمترس لحماية المفسدين المنحدرين منها. فالفساد اليوم جزء أصيل و وازن من نظام الحكم و من قيم المجتمع. و حل مشكل الفساد يقتضي تغييرا ثوريا يتناقض جذريا مع "ديموقراطية"، قبلية و شرائحية و إثنية.
عموما، من الغرائب في المشهد السياسي القائم أن النظام ينتقي بعناية للحوار المزمع الأشخاص الذين يملي عليهم تصوراته أو الذين استهلك الزمن أفكارهم و استهلكوا ، هم، الزمن في مصالهم، في حين يبعد عنه القوى التاريخية ذات التأثير على الرأي العام الوطني. فمنذ حوار منتدى ولد سيدي بابه، تعتقد الأنظمة أن الحوارات ليست إلا جلسات لأصدقائها و منة منها لمن ترتاح لأحاديثهم و تنسجم مع مواقفهم، يجتمعون معها للعشاء أو الغداء، في جنينات القصر الرئاسي أو في صالات وزارة الداخلية، ليوفروا لها "إجماعا وطنيا" تتحرك بعض الوقت تحت دعايته و شعاراته ، و لا تكترث بعدم اهتمام قطاعات عريضة جدا من الشعب الموريتاني به. و لحد الساعة لا تتوفر معطيات تجعل النظام الحالي يختلف عن الأنظمة السابقة حيال تقويم نتائج الحوارات التي أسفرت عن خدائع و ألاعيب سياسية متبادلة بين أطراف اللعبة . كما لن تتمكن " مخرجات" هذا الحوار المزمع، شأن سابقيه، من تغيير قناعات جميع قوى الرأي التي أقصيت منه، مما سيجعل الأمور تبقى تدور في ذات الأسطوانة الفارغة. فقد تعيش تلك القوى و التيارات لبعض الوقت تعت وطأة الإقصاء، لكن نتائج الإقصى هذه المرة لن تكون أوفر حظا من مخرجات حوار منتدى ولد سيدي بابه، الذي أقصى رأي البعثيين من "حواره" ، و كأنه حصل بصدفة سعيدة على عصا موسى... لكن التاريخ سجل ذهاب نتائج تلك اللقاءات الإقصائية أدراج الرياح و لحاق نظامها السياسي بها ... ذلك أن الحوار و إقصاء قوى الرأي و محاصرتها لا ينسجمان بأي حال...