الصوفية : تعقيب سريع على ما دار في الصالون
الحديث في الثقافة مفيد والحوار في الأمور الفكرية رياضة للأذهان والذهن كالبدن يقوى بالتمارين ويصح لكن الحوار حين لا يخدم قضية يكون جهدا ضائعا وحين يكون يؤدي لمفسدة يجب تجنبه والإبتعاد عنه.
يضيع الجهد الذهني عندما يكون لإثبات رأي وموقف بمنشورات الأولين وعقول الأولين ومداركهم فيصبح التقاضي أمام نصوص كتبها آخرون من زمن غابر لم يتفقوا هم أنفسهم عليها بل تخاصموا حولها وتنابزوا بالألقاب .......
في السياسة يكون الإقتراع هو القاضي والحكم بين أصحاب المشاريع المتنافسة فمن يحصل على أصوات أكثر يحق له أن يقول إنه أكثر قبولا ممن كان نصيبه دون ذلك ومن حقه أن يدعي أن مشروعه هو الأصوب...فقد حكم القاضي
أما التحاجج في أمور الدين فيقع بين جهات لا يقبل بعضها ببعض و الإسلام لا بابوية فيه ولا جهة يمكن أن تتفق عليها الأطراف لفض الخصام فالبعض يحسب أنه يتقرب لربه كلما أوغل في الإبتعاد عن البعض الآخر وحين يجمع الطرفين حوار يكون مبلغ جهد الواحد أن يعطي تأويلا لنص أو يأتي بحديث ينسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الطرف المُخَاصِم له لو كان يقبل بما جاء به من تأويل أو بما أورد من أحاديث ما كان حصل خلاف أصلا بينهما .......مباراة من دون حكم تمارين عبثية.....
النص القرآني ليس ناطقا بذاته والسنة من أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف المسلمون في مروياتها والأسانيد وكل طرف يدعي أنه على منهج السنة ولا يقبل بأسانيدَ لغيره تقول بما لم يقل هو به ، فهو من يملك الحقيقة وغيره على باطل والحقيقة في الحقيقة لا يعلمها إلا من لا تخفى عليه خافية.
القرآن كلام الله المنطوق ، محفوظ بقدرته حفظا مضمونا بوعد صريح منه لا يحتاج تفسيرا ولا يقبل تأويلا "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" والخلافات بين الفقهاء لا تكون في النص ذاته وإنما في قراءته وتأويله والإستنباط منه والنص وحده هو المقدس وهذه القدسية لا تتعداه لما تأَوَّله البعض منه والمنظومة المستنبطة كلها اجتهادات بشر وهذا هو الخلط الكبير الذي وقع فيه الكثير من الفقهاء أن حاولوا أن يوهموا العامة أن تفسيرهم للقرآن مقدس كالقرآن ....
أما الحديث فالخلافات قامت حول نصه فكان منه الصحيح عند هذا والضعيف عند ذاك والمرسل والمعلق وغيره في هرم تراتبي أنتجه البشر في حقبة تاريخية خاصة مشحونة متوترة شهدت مذابح فظيعة ، القاتل فيها مسلم والمقتول مسلم والجراح والثارات تنتشر بين ذوي القاتل وذوي المقتول من حاضنته الطينية والمذهببة.
اختلف الرواة ابتداء حين قال بعضهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تنقل عنه كلمة وقال آخرون عكس ذلك واختلفوا في "واو" هل هو عطف أم ابتداء "لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به....." وهذا الخلاف في حرف بسيط ، ليس من أقوى الحروف ، ترتب عليه مساران مختلفان تماما ؛ أحدهما ينحو منحى أن لا تأويل للقرآن مطلقا والثاني في اتجاه أن "الراسخين في العلم يحق لهم تأويله" وداخل هذا المسار سيتعرض الناس لتمرين آخر لمعرفة من هم الراسخون في العلم ؟ و"أي علم هو المقصود؟ و أي مذهب من المذاهب يحق للراسخين فيه تأويل القرآن ؟ ومن يكون هو صاحب التأويل الراجح من بين الراسخين من أهل المذاهب؟ " ...
ثم قال بعضهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة وقال البعض الآخر إنه لم يوص بها فبدأت مشكلة التعامل مع الولاية الدينية والسياسية أي بمعنى آخر بدأ الصراع على السلطة الأرضية وبدأت السياسة في توظيف الدين وتسخير الفقهاء لخدمة السلاطين بتطويع النصوص وتأويلها وإسقاط التأويلات على الأحداث والمواقف السياسية دعما لها أو تنفيرا منها.......
كان ترتيب البيت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نقطة البداية لخلافات سياسية وعشائرية وأسرية تمددت لداخل المنظومة العقيدية والعبادات شملت الأتباع والمريدين وانتشرت في مشارق الإسلام ومغاربه فأصبحت كل فرقة بحاجة لمنظومة فكرية ودينية لتأكيد "حقها" وتأكيد "باطل" غيرها...
قال المهاجرون إنهم الأولى بالخلافة ودفعوا بأرجحية الحاضنة الطينية وسَبْقهم للدين وقال الأنصار إنهم الأولى بها ودفعوا بأرجحية الحاضنة السياسية والدينية التي نصرته صلى الله عليه وسلم وأعزت الإسلام وكانت عاصمته ومولد دستوره ومنطلق انتشاره......وكاد الطرفان يقتتلان
حوار الصالون ضم شخصيات فكرية ودينية وازنة لها حظ كبير من المعرفة والثقافة والحجة والبيان ولكنه اتجه وجهة لا أحسب أنها تخدم أحدا من المسلمين لا الذين حضروا ولا الذين لم يحضروا ولا خاصة المسلمين ولا عامتهم.
فما الذي سيستفيده المسلمون من تبادل التهم وتبادل التفسيق ؟ ومن هو هذا الذي يحق له أن يفض الخصام ؟
ومن يخدم الإسلام أكثر من غيره ؟ ومن ينشر دعوة الإسلام أكثر من غيره ؟ وهل خدمة الإسلام في نشر دعوته أم في الحكم على هذه المجموعة أو تلك أنها ليست في تناغم مع ما نشره مسلم في زمن غابر كان فيه جزءا من الخلاف الذي جعل المسلمين مللا ونحلا وقد كانوا من قبل ملة واحدة ؟ وهل من المقبول عقلا أن يحكم بشر في عقيدة بشر !!!!
كان الحوار سيكون أكثر نفعا لو ناقش الحاضرون دور الصوفية في خدمة الإسلام و المسلمين اليوم ؟ وهل الخطاب الصوفي يُنَفِّر أم يجذب غير المسلمين للإسلام ؟ وهل تنتشر الدعوة بالتصوف أم أنها تنكمش وتضمر؟
لا يوجد وصي على الشريعة ليقول هذا خالفها وهذا سايرها والشريعة عرَّفها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه أن قال إنها ما شرع لنا من الدين مما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن نُقيم الدين ولا نتفرق فيه ؛ وإقامة الدين في الصلاة والزكاة والصوم وحج بيت الله الحرام و لا فرقة بين المسلمين في الجوهر والخلافات فقط في بعض التفاصيل والجميع يقبل بالجميع كأن يرمي البعض جمراته أول النهار وبعضهم يَقِيل والبعض يُمسي أو كأن يقنت البعض قبل الركوع ويقنت البعض بعد الرفع منه في صلاة الصبح الخ......
لا يعرف أحد مطلقا ما الذي ينتظره يوم الحساب ولا الذي ينتظر غيره ولا يمكن أن يقضي بصوابية هذا ولا بخطئية ذاك فما الذي يعنيه إذن أن يقول هذا إنه على حق وأن غيره على باطل ؟
القاضي حين يصدر حكما نهائيا فهذا يعني أن الحكم قابل للتنفيذ وإلا فلا فائدة أصلا من التقاضي ولكن الذين يفتون في مصائر المسلمين لا يحملون الصفة ولا يملكون الأهلية ولا القدرة على تنفيذ حكم بتكفير هذا أو تفسيق ذاك ولا يملك أحد منهم ولا من غيرهم القدرة أن يدفع بشخص أو جماعة للنار ولا أن يدفع بشخص أو جماعة للجنة ، فما الذي سيستفيده من كان الحكم لصالحه ؟ وما الذي سيخسره من كان الحكم لصالح خصمه ؟ لن يُنتج هذا الشكل من التقاضي في صالون أو سقيفة أو مُدَرِّج جامعة غير التنافر والتباغض بين المسلمين، والله نهى الجميع عن ذلك وأمرهم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في توادهم وتراحمهم كالبنيان المرصوص....
دعونا أخيرا نسأل هؤلاء الذين يؤسسون أحكامهم في حق مخالفيهم على أسانيد غابرة هل أصحاب هذه الأسانيد التي يرجعون إليها ليخرجوا الصوفية تارة من الملة و الفنانين منها طورا......، هل هؤلاء من أهل العصمة لا تُستأنف أحكامهم ولا يُقبل بغيرها ؟ ثم لماذا يتوقف العقل الفقهي عن التجدد والتوالد منذ أغلق باب التمذهب ؟ ومن أغلق باب التمذهب أصلا ؟ وهل يعقل أن يطالب عاقل بعدم تفعيل العقل خارج المذاهب الأربعة بسبب أن "بيبرس المملوكي" أوقف المدارس على الأربعة ؟ وهل قرار من "بيبرس" بمثابة أمر من السماء ؟ وهل يمكن أن نرجع مثلا لموقف مالكي من فتيا شافعية في حين أن المأثور أن الخلافات بين الجماعتين كانت عنيفة ودموية ؟
مذاهب السنة الأربعة مذاهب فقهية من اجتهاد البشر لا عصمة لأي منهم فلا معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم والعصمة لا تورث ولا يوصى بها لأن من وهبها هو الله وحده جل جلاله وهو الأعلم حيث يجعلها....
هل يجوز أن نقيس خطأ أو صواب سلوك فرد أو جماعة بالرجوع لنص من وحي الأرض، من اجتهاد بشر !!!!! وهل يعقل أن نحتكم لقوم اختلفوا فيما بينهم يوم كان عهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا ؟
كان حريا بالمشاركين في الصالون أن يبعدوا الإسلام عن دائرة النقاش وأن يحصروه في مناظرة بين جماعات من المسلمين كل منها له منهجه وطريقته وحجته وكان من الأجدى أن يتناقشوا حول الأمور التي قد تدفع بالمسلمين لمزيد من التلاحم والتراحم والتوادد كأن يتناولوا موضوع الدعوة للدين وأي الجماعات تتوسع بالإسلام وتنشره في العالم ؟ ولماذا تتفوق جماعة على أخرى في توصيل رسالة الإسلام لغير المسلمين ؟ ولماذا لا تجتمع الجماعات كلها لتبادل الخبرات في حملات التعريف بالإسلام ونشره ؟
وأي الجماعات الإسلامية تستقطب أكثر ؟ وأي الجماعات اليوم تؤذي المسلمين ؟ والفرق كبير بين القول بإيذاء المسلمين والقول بإيذاء الإسلام، فالأول محسوس تشهد الناس عليه والثاني غير محسوس بل أحكام قيمية يقول هذا إن في ذلك أذى للإسلام ويقول آخر إن فيه للإسلام خيرا عظيما ولا حسم مطلقا بين الرأيين.....
الصوفية تنتشر بسرعة مذهلة داخل غالبية البلدان الإسلامية وفي هذا قبول لها من الناس ورضى وهذا دليل على أنها جزء من ديناميكية الفعل الإسلامي الحميد.
حين نقول إن هذا الشاعر أكثر شاعرية من غيره فهذا يعني أنه نال قبولا أكثر منه وليس لشيء آخر فالقواعد البلاغية والبيانية لاحقة للشعر والقواعد ميكانيكا وليست ذوقا....كذلك المذاهب فأيها نال قبولا واسعا فلأنه فاز بهوى في قلوب المسلمين ولا تجتمع القلوب عادة على خطإ....
أما إصدار الأحكام على جماعات تأسيسا على سلوك بعض منتسبيها فمثله كمثل من يحكم على الإسلام بسوء لأنه لقي مسلما لا يصلي أو آخر لا يصوم !!!!
في الصوفية وفي غيرها أشخاص يعاب عليهم الكثير ولكن في الصوفية أيضا أشخاص نشروا الإسلام في بقاع واسعة من العالم ومنهم من أسلم على يده في جلسة واحدة عشرة آلاف وَثَنِي.......فهل من الإنصاف أن نستظهر بزلة قول من شخص أو زلة فعل لا تلزم غيره لِنُدِين بها تيارا واسعا ينتسب له مئات الملايين من المسلمين ونغفل عن ذكر ما تقوم به الصوفية من نشر الإسلام بين عشرات الملايين من الوثنيين الذين ما جاءهم بشير من قبل ولا نذير !!!!
المسلمون ، ظاهرية وباطنية ، صوفية وسلفية، سنة وشيعة، زيدية وأباظية وسائر المِلَلِ منهم والنِّحَلْ يحتاجون خطابا يؤلف بين قلوبهم ، يجمع كلمتهم ، يرص صفوفهم في مواجهة عدو يستهدفهم جميعا و لا يفرق بينهم.....
اللهم ألف بين قلوب المسلمين جميعا
الرفيق الدكتور محمد ولد الراظي